"قرار الإضراب كان القرار الطبيعي لمواجهة المجزرة القضائية، تحديده بأسبوع قابل للتمديد كان القرار الموازن بين الإضراب المفتوح وما دون الإضراب، وثم قرار التمديد للأسبوع الثاني كان القرار المعقول أمام تجاهل سلطة الاستثناء للحد الأدنى من المطلوب... وأما بعد؟
تقديرات أصحاب النوايا الحسنة، وليسوا أولئك المتخاذلين، مختلفة في معركة تهمّ كل المعنيين بشأن العدالة في هذا البلد، وهو اختلاف طبيعي، بل ومطلوب.. البداية هو استثمار مبادرة التنسيقية، في هذه السياق المتوتر، لتحقيق اختراق بعد سنوات استنزاف خاصة داخل العدلي بعد 2011, بتطويرها من الوقتي إلى الدائم، وخاصة مع الاستعداد لما هو أشنع لما فات.. هذه المأسسة هي أول نجاح ممكن بيد الهياكل التمثيلية نفسها دون انتظار ساكن قرطاج، إن فشل مسار مأسسة التنسيقية على الأقل كبذرة لمسار وحدوي، ولو من المدخل الرمزي راهنا، سيتحمّله أهل القضية وليس الخصم.. هذا جانب.
ويبقى سؤال ماذا بعد من أسبوعين من الإضراب؟ بدأ الإضراب حيويًا ثم بدأت تتراجع حيويته لأسباب متعددة بين إكراه اقتطاع، وبرود بعد لحظة اندفاع، واستقالة قضاة عن الشأن العام لا يرون القضاء إلا تحريرات وتلاخيص ومشية وجيئة بين المكتب وقاعة الجلسة، هؤلاء هم من يمارسون القضاء وظيفة لا سلطة.. قرار توسيع قائمة الاستثناءات في الأسبوع الثاني كان ضرورة ليس فقط لتأمين الحد الأدنى من حق التقاضي وتأمين الحقوق غير قابلة للتأجيل، بل أيضًا لتأمين نجاح الإضراب نفسه داخل عقل محافظ لا يميل في عمقه للتصعيد.. وأيضًا محاولة للإقناع بالالتزام لغير المتحمسين للإضراب سواء ممن أضربوا لجلسة واحدة أو لم يضربوا البتّة، خاصة في منتهى سنة قضائية يسارع فيها رؤساء الدوائر للتخلّص من الملفات وعدم توريثها للسنة القضائية الجديدة، وستكون عليهم في حساب قياس الفصل المعمول به.. لكن رغم ذلك ظل الإضراب بالنهاية محافظًا على الحد الأدنى من وظيفته كوسيلة ضغط على السلطة.. بذلك كان الإضراب ناجحًا نسبيًا.
من اختار المواجهة هو من اختار الظلم، ومن اختار التصعيد هو من صعّد في القهر، وهو يقول للمعنيين بشأن العدالة، وللجميع في هذا البلد ببساطة، أنه قطار سريع لا يتوقّف، وإن قلت له يا عمر إنك ظالم يقول لك إنك كافر.. إن كان من اختار المواجهة بأكثر الوسائل شناعة من إعفاء لمن لا يطيعونه على ارتكاب الظلم وتحصين لقرارته من الحق الطبيعي في الطعن والتقاضي، فلا خيار إلا إتمام المواجهة معه، لأن الاستكانة عنده ليس فقط أن الآخر كفّ عن مواجهته، بل هي إشارة أنه يستطيع مواصلة جُرمه، وأن ما تمّ ليس إلا البداية.
محاولة افتكاك السلطة القضائية بدأت منذ سمى نفسه رئيسًا للنيابة العمومية يوم 25، وثم تواصلت في فصول متعددة وآخرها ستكون حول دستور موعود لنا أنه سيُرجع القضاء وظيفة لا سلطة، دون عن تركيبة للمجلس الأعلى القضاء مفتقدة ضمانات الاستقلالية، مشروع سيُتلى علينا بعد بضعة أيام، في معركة جديدة يبدأها من جديد ليطلب منّا جميعًا النزال معه، فلا خيار إلا مواجهته مجددًا، لذا من المهم الحفاظ على وتيرة المواجهة لا التراجع.. فمن اختار المواجهة، لا خيار إلا مواجهته، ليس فقط بمنطق مبدئي لكن أيضًا، وربّما الآن أهم، بمنطق مصلحي للحفاظ على الأدنى.. فإن لم نوقف جُرمه هذه المرّة وباستعمال كل الوسائل الممكنة والناجعة أي المؤثرة والضاغطة عليه ببساطة، سيستبيحنا جميعًا أكثر مما استباحنا حتى الآن.. نريد أن نستأنف معركة استقلالية القضاء بأدوات الديمقراطية لا بأدوات الاستثناء والسلطوية".