ذكرى أولى تمرّ على يوم أسود في تاريخ القضاء التونسي: 1 جوان 2022. في ذلك اليوم، أصدر رئيس الدولة قيس سعيّد أمرًا رئاسيًا بإعفاء 57 قاضيا (الأمر عدد 516) بمقتضى صلاحية رئاسية جديدة منحها لنفسه تعديلًا لمرسوم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء (المرسوم عدد 35) صدر في العدد ذاته من الرائد الرسمي في ذات اليوم. شملت “المجزرة” قضاة انحازوا لاستقلالية القضاء والتصدّي لتدخّل السلطة التنفيذية من مواقع مختلفة، أبرزهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ورئيسة مجلس القضاء العدلي، ورئيسة محكمة الاستئناف بتونس والوكيل العام بها، ووكيل الجمهورية بتونس وعميد قضاة التحقيق بها، عدا عن وكلاء جمهورية وقضاة تحقيق على وجه الخصوص باشروا قضايا سعت السلطة السياسية إلى فرض قراراتها بشأنها.
كان بذلك صيف 2022 استثنائيًا داخل المجتمع القضائي، إذ لحق “المجزرة” إضرابٌ في المحاكم تحت رعاية تنسيقية الهياكل السداسية الممثلة للقضاة، دام شهرًا واحدًا. تنوّعت لاحقًا الأشكال الاحتجاجية كإضراب جوع بعض القضاة المعفيين في أيام حرّ جويلية. ورغم محاولة رئيس الدولة تحصين أمره من الطعن كاشتراط البتّ في تداعي جزائي لم يبدأ بعد، وبما يتعارض بداهة مع مبدأ الرقابة القضائية، أصدر رئيس المحكمة الإدارية، بتاريخ 9 أوت 2022، حزمة قرارات وقتية منتهاها توقيف تنفيذ إعفاء 49 قاضيا من جملة القضاة المعفيين في انتظار البتّ في الدعاوى الأصلية في مادة تجاوز السلطة. بيد أن قرارات توقيف التنفيذ، غير القابلة للطعن والملزمة لمن صدرت في مواجهته، ظلّت حبرًا على ورق، بل تمّت إثارة دعاوى جزائية ضد القضاة المعفيين.
نستعرض في هذا المقال مآلات المجزرة القضائية في ذكراها الأولى، وبالخصوص خطوات مواجهة القضاة المعفيين وهيئة الدفاع عنهم لردّ المظلمة، بالتوازي مع استعراض “أفعال” السلطة السياسية في هذا الملفّ، الذي فتح لها الباب على مصراعيه لبثّ مناخ من الترهيب والتهديد في أوساط قضاة السلسلة الجزائية تحديدًا. وذلك بغاية وضع اليد على القضاء لتعبيد الطريق أمام الخيار الممنهج لرئيس الدولة ومعاونيه في استهداف الحريات العامة وتكميم أفواه المعارضين عبر المحاكمات السياسية المتلاحقة.
شكايات جزائية ضد الوزيرة لا زالت تنتظر الفصل
أدّى رفض السلطة التنفيذية إلى عدم تنفيذ قرارات رئيس المحكمة الإدارية إلى تقديم هيئة الدفاع عن استقلال القضاء والقضاة المعفيين، نيابة عن 37 قاضيا، لشكايات جزائية ضد وزيرة العدل ليلى جفال بتاريخ 23 جانفي 2023، من أجل الفساد وعدم الامتثال للأوامر والقرارات الصّادرة ممن له النّظر طبق مقتضيات القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 07 مارس 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين والفصل 315 أوّلًا من المجلة الجزائية. إذ رغم إعلام المحكمة الإدارية للوزارة بالقرارات الصادرة، وقيام عدد من القضاة المعفيين من باب الحرص الإجرائي بالإعلام عن طريق عدول التنفيذ، امتنعت الوزيرة عن تنفيذ قرارات رئيس المحكمة الإدارية رغم صبغتها الباتة. بل إمعانا منها في التنكيل بالقضاة المعفيين، تولّت المصالح الإدارية في الوزارة غلق مكاتب القضاة وتغيير مفاتيحها.
يكشف الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء عن مدى تغوّل السلطة التنفيذية وفرضها للأمر الواقع تشريعًا وواقعًا. وللمفارقة، فإنّ النسخة التنفيذية للقرارات الصادرة طبق مقتضيات الفصل 55 من قانون المحكمة الإدارية، تنصّ على أنّ رئيس الدولة هو من يأمر ويأذن للوزير المعني وكافة السّلط الإدارية المعنية بتنفيذ القرار أو الحكم. ولكنّ رئيس الدولة، الذي أصدر أمر الإعفاء الواجب إيقاف تنفيذه بحقّ 49 قاضيا، هو نفسه الذي لم يأمر الوزيرة بالامتثال للقرار القضائي. في هذا الجانب، يُستذكر حذف قيس سعيّد في “دستور 2022” للتأسيس الدستوري للزوم تنفيذ أحكام القضاء، كيفما كان يقتضي الفصل 111 من دستور 2014 الذي ينصّ على أن “تصدر الأحكام باسم الشعب وتنفذ باسم رئيس الجمهورية، ويحجر الامتناع عن تنفيذها أو الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها”. ولا ريب أنّ التخلّي عن هذه الحماية الدستورية للقوة التنفيذية للأحكام كاشف لسوء نيّة منذ البداية.
لم تنظر النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس، في الأثناء، في الشكايات المقدّمة ضد وزيرة العدل رغم تقديم هيئة الدفاع لتذكير ثانٍ بشأنها. وهو ما يعكس التعامل التمييزي للنيابة، فهي من جهة تسارع في النظر في شكايات صادرة ضدّ جهات ما وتسابق الزمن في إحالاتها، ولكن من جهة أخرى تمتنع، دون أي موجب قانوني، عن النظر في شكايات أخرى كشكايات القضاة المعفيين ضد وزيرة العدل. والغاية من هذه الشكاية، التي تقدّمت بعد انتظار دام زهاء خمسة أشهر منذ صدور قرارات توقيف التنفيذ، هو تحميل الوزيرة المسؤولية الجزائية في الامتناع عن تنفيذ قرارات قضائية.
أين وصلت القضايا الجزائية المُثارة ضد القضاة المعفيين؟
مباشرة بعيد صدور قرارات المحكمة الإدارية، أعلنت وزارة العدل أن القضاة المشمولين بالإعفاء هم محل إجراءات تتبعات جزائية (بلاغ بتاريخ 14 أوت 2022)، قبل أن تعلن لاحقًا تعهيد النيابة العمومية بـ109 ملفًا (بلاغ بتاريخ 20 أوت 2022)، ليمثل فصل القضايا الجزائية المُثارة عنوانًا لمضي السلطة ليس فقط في تبرير عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بل أيضًا في الإمعان في التنكيل بالقضاة المعفيين.
توزّعت القضايا التحقيقية بين القطب القضائي لمكافحة الإرهاب والقطب القضائي للفساد المالي والاقتصادي إضافة لمكاتب التحقيق بالمحاكم سواء بالعاصمة أو بالجهات. تصريح رئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين الأستاذ العياشي الهمامي بفبركة قضايا ضدهم، والذي تم تتبّعه على إثره بمقتضى المرسوم عدد 54 بطلب من وزيرة العدل، هو كاشف للصبغة الكيدية في عديد القضايا المثارة، كانعدام قرائن الإدانة المؤسسة عليها. رئيس المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ يوسف بوزاخر هو حاليًا محلّ تتبّع في القطب القضائي لمكافحة الإرهاب وأيضا في القطب القضائي للفساد المالي: التتبّع الأول بحث تحقيقي قوامه وشاية وجهها إلى رئيس الدولة قاض معزول صادرة في حقّه أحكام جزائيّة بالإدانة من أجل الإساءة للغير استهدافًا لبوزاخر وقضاة آخرين. أمّا التتبّع الثاني فقوامه شكاية زعمت أنه تحصّل على ترقيات غير قانونية وسيارة إدارية من دون حقّ، سبق وتمّ حفظها ولكن أُثيرت مجددًا من النيابة في نهاية أوت 2022 لتفتح بحثًا على معنى الفصل 31 من مجلة الإجراءات الجزائية (بحث مؤقت ضد مجهول) وتستدرك بعد أسبوعين ببحث تحقيقي ضده على معنى الفصل 96 من المجلة الجزائية.
حزمة القضايا المثارة ضد جلّ المعفيين تكتسي صبغة كيدية بيّنة: مستشار في محكمة التعقيب معفى، مُحال من أجل “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة” بسبب تدوينات، وقاض آخر مُحال على أساس تقرير حول عضويته بجمعية قرآنية والحال أنّ الأمر يتعلق بمجرّد تشابه أسماء، وقضاة في النيابة مُحالون بسبب ممارستهم لسلطتهم في عدم الاستجابة لطلبات الأذون بالتفتيش من الضابطة العدلية. وقد تمسّك القضاة المُحالون بالحصانة القضائية، وبذلك تولى قضاة التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، على وجه الخصوص، توجيه مطالب للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء للنظر في رفع الحصانة عن زملائهم المُحالين. ولم يبتّ المجلس بعد في هذه المطالب المتعلقة بـ 13 قاضيًا بعد طلب هيئة الدفاع عن القضاة التأخير، ليتحدّد موعد الجلسة المقبلة بتاريخ 20 جوان 2022.
بيد أنّ تعاطي القضاة المباشرين للملفات مع الدفع بالتمسك بالحصانة القضائية لم يكن موحدًا. ففي المحكمة الابتدائية بتونس، يشترط قاضي تحقيق متعهّد بلزوم المثول الشخصي للقاضي “المتهم” أمامه لقبول تمسّكه بالحصانة والنظر في إمكانية رفع الطلب للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء. بل في إحدى الجهات، نقضت دائرة الاتهام إثر استئناف النيابة العمومية، قرار قاضي التحقيق بإيقاف النظر ريثما يتم البتّ في الحصانة القضائية باعتبارها مسألة أولية، لتطلب من القاضي المتعهد مواصلة أعماله دون التوقّف عند هذا الدفع. أدى ارتباك النيابة العمومية في إثارة الملفات القضائية ضد المعفيين، وما تضمنته من خروقات إجرائية خاصة فيما يتعلق بالحصانة، إلى تباين في مباشرة القضاة المتعهدين بالملفات. فيما تبقى كرة النار مرمية لدى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي وجد نفسه في اختبار عسير، بين ضغوطات علنية تمارسها السلطة السياسية من جهة وحقائق الملفات المعروضة على الطاولة من جهة أخرى.
في تبعات سيف قطع الأرزاق على المناخ القضائي
أن يتمّ إعفاء عشرات القضاة في خرق تامّ لقرينة البراءة ومن دون تمكينهم من إعمال مبدأ المواجهة والدفاع عن أنفسهم، ومن ثمّ عدم تنفيذ قرارات قضائية بوقف تنفيذ قرارات إعفائهم، شكّل رسالة تخويف بليغة إلى جميع القضاة المباشرين، وتحديدًا قضاة النيابة العمومية والتحقيق، رسالة تذكرهم بهشاشة أوضاعهم واحتمال التحاقهم بمظلمة زملائهم في حال ارتكاب أي خطأ وفق معايير السلطة الحاكمة. فقد نتج عن استدامة قرار الإعفاء لمدة عام، تصاعد الكلفة الاجتماعية والمادية لقطع الأرزاق تعسفيًا، بالنظر لما لضحايا المذبحة من التزامات أسرية خصوصا وأن جلّهم يؤمّنون إنفاق عائلاتهم أساسا من رواتبهم. هذا المشهد، الذي يحرص المعفيّون على تفادي إظهاره أنفة وكرامة، ولكن أيضًا باعتبار أنهم لازلوا يحملون، بالقانون وتجاه أنفسهم صفة قاضٍ قوامه التعفف وعدم إظهار ضيق الحاجة، يعكس تبعات المظلمة في عمقها الواقعي. وهو المشهد ذاته أيضًا الذي يعاينه زملاؤهم المباشرون، بما يسّر تسلّل عصا السلطة لتوجيه المسارات الإجرائية في عديد الملفات القضائية، خصوصا تلك التي لم تتحرّج السلطة السياسية في إظهار دورها في إثارتها أو في التأثير على قراراتها.
“إمّا أن أوقِف أو سيقع إيقافي”: هذه العبارة التي نقلتها الأستاذة دليلة بن مبارك مصدّق، عضوة هيئة الدفاع عن القادة السياسيين المعتقلين في قضية “التآمر”، عن أحد القضاة المباشرين للمحاكمات السياسية، تعكس حجم الترهيب في وسط القضاة بعدما تبيّن أن إعفاء زملائهم هو الأمر الواقع والمنفّذ بنهاية المطاف، بمعزل عن قرارات القضاء أو أحكام القانون. ولا يقف مناخ الترهيب عند هذا المستوى. ففي خضم حملة الاعتقالات السياسية في فيفري 2023، أوقفت وزارة العدل أحد قضاة التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب عن العمل على خلفية اجتهاده القضائي البحت في إبقاء متهم بحالة سراح. وعزّز هذا الإيقاف بالذات مناخ الترهيب بشكل ملاحظ في الوسط القضائي، وأصبحت القضية السياسية كلما دخلت مكاتب جلّ قضاة التحقيق بمثابة كرة نار.
في هذا الجانب، تبيّن شهادات المحامين في عديد المحاكمات السياسية أن عددًا لا بأس به من قضاة التحقيق على وجه الخصوص، واعون لدى مباشرتهم لملفّاتهم بصبغتها الكيدية ودوافعها السياسية وبخواء قرائن الإدانة المزعومة. بيد أنهم يعون، في الآن ذاته، أنّ اتخاذ قرار نابع من وجدانهم الخالص غير ممكن، وتحديدًا عدم إصدار بطاقة إيداع أو الإفراج المؤقت. فباتت الشهادات الطبية للاسترخاص من أجل عطلة مرضية، خيارًا ينحو إليه البعض لإبعاد كرة النار تارة أو على الأقل لتأجيل مباشرة الملف، وتحديدًا استنطاق المتهم، بغية تخفيف الضغط.
بيد أنّه إجمالًا، يعتقد قاضي التحقيق المباشر، اليوم، أنه أمام خيار وحيد وهو عدم إغضاب السلطة السياسية إذا ما كان يريد تفادي أمر إعفاء أو إيقاف عن العمل كتتبع عنوانه تأديبي. وهذا الخيار المُكره لا يؤدّي بالضرورة إلا لموازنة ليست بين قرائن الإدانة وقرائن البراءة، بل بين “خطوط حمراء” تحدّدها السلطة السياسية وإمكانات اجتهاد لتقليص الضرر بحق المتهم. والصورة طبعًا مغايرة بالنسبة للقضاة الذي اختاروا، منذ البداية، رهن قراراتهم للسلطة بل هم يحاولون إرضاءها بكل الطرق الممكنة، وجلّ هؤلاء القضاة يباشرون بالنيابة العمومية وبعض مكاتب التحقيق، التي بات المحامون كلّما علموا بإحالة الملف إليها يدركون آثاره. ولكن ألا يجوز طرق خيار آخر أي التمسّك بالاستقلالية وبرسالة القضاء؟ لا يتحرّج قضاة مباشرون في الإجابة: وماذا عن قطع الأرزاق؟ هذه الإجابة تعكس معضلة لا زال يواجهها القضاة المعفيون بعد عام من مظلمتهم، وهو عدم الترسيم بالمحاماة بغاية ضمان الأمان المعيشي.
الترسيم بجدول المحاماة لمواجهة الضيم.. لازال الانتظار
قدّم عشرات القضاة مطالب للهيئة الوطنية للمحامين بتونس للترسيم في جدول المحاماة، طبق الفصل الثالث من مرسوم المحاماة الذي يخوّل لكل من باشر القضاء لمدة عشر سنوات الترسيم ما لم يكن معزولًا لأسباب مخلة بالشرف، وذلك مع تأمين الشرط المالي الأدنى (20 ألف دينار) والذي اضطرّ عديد الساعين للترسيم بالمحاماة للتداين، فضلا عن مساهمة قضاة مباشرين في حملات تبرّع، لتخفيف وطأة قطع أرزاق زملائهم ظلمًا. وأعاد تقديم هذا المطلب للأذهان تاريخَ فصلٍ شاهدٍ على انحياز المحاماة الرسمية للقضاة كلما تم عزلهم على خلفيّة التمسّك باستقلاليّتهم، حينما أصدر العميد منصور الشفي قرارات بترسيم القضاة المعزولين بعد مظلمة أفريل 1985، بعد قرار الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة حلّ جمعية القضاة الشبان مع عزل قضاة مدافعين عن استقلالية القضاء.
رغم ما يعكسه هذا الشاهد التاريخي من ترابط بين المحاماة والقضاء في مهمة الدفاع عن استقلالية القضاء، باعتبار أن استقلالية كلّ رسالة منهما هي ضمانة لاستقلالية الأخرى، وأيضًا باعتبار أن المحاماة بما هي مهنة حرّة هي الخيمة الجامعة داخل المجتمع القضائي، فإنّ السياقات الراهنة ألقت بظلالها على مطالب الترسيم من القضاة المعفيين. لا تتعلّق الصورة فقط بتبعات انخراط المحاماة الرسمية زمن العميد السابق إبراهيم بودربالة في المخطط الرئاسي لضرب مقومات استقلالية القضاء بل والدفاع عن قرارات رئيس الدولة كقرارات الإعفاء. بل تشمل أيضًا، داخل المحاماة، خفوت البعد الحقوقي في أوساط القواعد مقابل تصاعد المواقف الحديّة تجاه جسم القضاة، إثر سنوات طغى عليها الخطاب القطاعوي الفئوي صلب المحامين والقضاة على حدّ سواء. ويتقاطع التحفّظ على الاستجابة لمطالب الترسيم مع مطلبية مهنية مستقرّة قوامها توحيد المدخل للترسيم للمحاماة وبالخصوص عدم تمكين القضاة تحديدًا المتقاعدين من الانتساب للمهنة، وهو ما عكسه مشروع قانون تنظيم المحاماة عام 2018، بعناوين متعددة منها مواجهة منافسة غير مشروعة وأيضًا المعاملة بالمثل.
وبغضّ النظر عن صوابية هذا التقدير من عدمه، تبقى مجزرة الإعفاءات، المُجمع حقوقيًا على صبغتها التعسفية المطلقة وعلى غايتها وهي وضع اليد على القضاء، محطّة لا يمكن التعامل مع تبعاتها من منظور مهني مصلحي بحت. فلا تتعلّق الصورة بدور المحاماة في إنجاد المعفيين بوصفهم مظلومين، وإن كان الانتساب للمحاماة متاحًا بقوّة القانون الجاري، بل أيضًا بما يعنيه هذا الانتساب من رسالة واضحة للقضاة المباشرين بلزوم ممارسة مهامهم بكل اجتهاد خالص دون خشية من أي تأثير أو تهديد. الرسالة هنا: إن تم الإعفاء، فباب المحاماة مفتوح لكم.
لم يبتّ مجلس الهيئة الوطنية للمحامين بعد في مطالب الترسيم بعد تعيين مقرّرين لدراستها. وتتباين المواقف صلب المجلس، إذ يتحفظ فريق بالخصوص لخلفيات متعددة تتأسّس في ظاهرها على سبب إجرائي. تعلّتهم هي أنّ طالبي الترسيم لا زالوا يحتفظون حتى الساعة بصفة القاضي المباشر تبعًا للقرارات الصادرة في مادة توقيف التنفيذ بغضّ النظر عن عدم تنفيذ هذه القرارات، عدا عن استمرار نشر الدعاوى الأصلية في مادة تجاوز السلطة أمام المحكمة الإدارية. تاليا تستلزم الاستجابة للترسيم، حسب هذه القراءة، الرجوع عن القضايا الأصلية على الأقلّ. بيد أن المسألة، واقعًا، لا ترتبط بمجرّد استكمال شروط إجرائية، يمكن إيجاد الصيغ القانونية بشأنها، وهي تفاصيل لن يذكرها التاريخ، بقدر ما تتعلّق بالقضية الجوهرية وهو دور المحاماة الرسمية في التخفيف من وطأة مظلمة لم تستهدف قضاةً بعينهم، بقدر ما استهدفت القضاء في استقلاليته.
إحياء احتجاجي لذكرى المظلمة
في الأثناء، لا يمكن أن يتخذ إحياء ذكرى مظلمة قطعًا إلا شكلًا احتجاجيًا. ولذلك قررت لجنة الدفاع عن استقلال القضاء والقضاة المعفيين بالشراكة مع جمعية القضاة التونسيين، تنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة العدل، بتاريخ 1 جوان 2023، بمشاركة القضاة المباشرين بزيّهم القضائي إضافة لمكوّنات العائلة الحقوقية. والاحتجاج أمام مقرّ الوزارة هو تحميل مباشر للمسؤولية لـ “عرّابة” المظلمة أي الوزيرة ليلى جفال وذلك بداية من دورها في إعداد قائمة المعفيين ولاحقًا الامتناع عن تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية وكذلك دورها في إثارة التتبعات الجزائية.
ظلّت، في الأثناء، جمعية القضاة طيلة العام المنصرم الحصن المدافع عن قضية المعفيين مقابل غياب مطلق لنقابة القضاة التي لم يُسمع لها أي صوت في هذه القضية، بل على خلاف ذلك، دعمت مشاركة القضاة في المسار الانتخابي للانتخابات التشريعية خلال الشتاء الماضي، مرتدّة عن القرار السابق للهياكل التنسيقية في مقاطعة مسار الاستفتاء، رغم أن سبب المقاطعة أي مظلمة الإعفاءات تصاعدت بعدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية والتتبعات الجزائية المثارة. وتعكس استقالة النقابة في الدفاع عن قضية المعفيين وعن استقلال القضاء في عديد المحطات استشراء واقع الموالاة في الصف القضائي وهشاشة الوعي للدفاع عن استقلالية القضاء، مع الانكفاء المطلق نحو مطالب قطاعية ذات صبغة مادية بحتة.
تبقى المظلمة بذلك مستمرّة بعد عام لتمتدّ في الزمن، وتمتدّ معها مآسي إنسانية لقضاة دفعوا ضريبة التمسك باستقلاليّتهم، وهي تكشف عن إمعان السلطة السياسية في تثبيت حالة الحيف دون أي مؤشرات للمراجعة. وقد كشفت هذه المظلمة عن الخيار الممنهج للسلطة في وضع اليد على القضاء، وصولاً إلى واقع قضاء التهديدات وليس مجرّد التعليمات. ولم تكن الغاية إلاّ التمهيد لاستهداف الحريات العامة وتكميم أفواه المعارضين، عبر محاكمات سياسية مثارة في مناخ قضائي لا يسوده اليوم إلا الترهيب، ولا يعلو فيه إلا نداء ما تطلبه السلطة السياسية.