رجل وحيد يقرّر ويخطّط ويدير العملية السياسية في تونس، فمن كتب دستورًا لوحده دون رقيب ودون حتى مصحّح لغوي، لا يعوزه أن يرسم لوحده القانون الانتخابي للانتخابات التشريعية المبكرة نهاية العام الجاري. في الأثناء، إن الرئيس قيس سعيّد الذي أصدر منذ أقل من شهر تنقيح القانون الانتخابي هو ذاته الذي يستعد بمنطلق "الواجب الوطني المقدّس" لتعديل قانونه، وهو الذي كان قد نقّح مشروع الدستور بسبب 47 خطأ.
تسير آلة التشريع الرئاسية كعادتها دون إشراك لأي حزب أو فصيل، رغم أن الأداء التشريعي لرئيس الدولة جعل المبدأ الأصولي أن "المشرّع منزّه عن العبث" في موضع حرج. نحن بصدد حالة من العبث التشريعي غير المسبوق في بلد عرف موجة التقنين والدسترة منذ القرن التاسع عشر.
أرسى القانون الانتخابي الجديد نظام الاقتراع على الأفراد مع إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية باتجاه اعتبار المعتمدية دائرة انتخابية مع جمع بعضها أو تجزئتها وذلك دون معيار دقيق ما أدى لاختلال ديمغرافي بين الدوائر يصل لمستوى ضارب تسعة.
لا يقتصر الاختلال على الدوائر بين الولايات المختلفة، بل بالخصوص داخل الولاية الواحدة على غرار تصعيد دائرتيْ صفاقس الجنوبية وقرقنة لنائب وحيد رغم أن عدد السكان بينهما متباعد بين 130 ألف و16 ألف ساكن على التوالي، وهو ما يمسّ من مبدأ المساواة في الصوت الانتخابي والتمثيلية.
يتعاظم هذا المشكل وتتبيّن أكثر مخاطره مع اعتماد نظام الأفراد على دورتين، وهو نظام نادر جدًا في الأنظمة العالمية، تعدّ فرنسا، التي تقوم ديمقراطيتها على المنظومة الحزبية، نموذجًا لاعتماده وتتصاعد الدعوات محليًًا لتعديله. واختار سعيّد نظام الأفراد نظامًا وحيدًا ولم يعتمد حتى النظام المختلط الذي يقوم على مزج بين التمثيل النسبي على المستوى الوطني والنظام الفردي.
المعضلة الأساسية والدائمة مع النظام الفردي، في تجارب الدول غير الديمقراطية أو نصف الديمقراطية وفي المجتمعات المحلية الهشّة تنمويًا واقتصاديًا وضعيفة الارتباط بالمسألة الديمقراطية، كالحالة التونسية، هو أن الانتخابات تتحوّل في الدوائر الانتخابية الصغيرة والمتوسطة بالخصوص، وهي الغالبة، إلى صراع بين مراكز النفوذ السياسي والمالي. والنفوذ السياسي هو النفوذ الذي يتشكّل بغاية حماية المصالح المالية، وهو ما يؤسس بالفساد المالي بالمفهوم التقليدي البحت.
يستهدف خطاب رئيس الدولة مواجهة الفساد السياسي، ولكن، واقعًا، يعزّز بنظام الاقتراع المعتمد هذا الفساد الذي لم يسع سعيّد لمعالجة أسبابه الجذرية، المرتبطة على سبيل المثال باقتصاد الريع. يعتقد الرئيس أن التنافس سينحصر بين شباب حملته التفسيرية أساسًا باعتبارهم سفراء مشروعه لدى عامة الشعب على المستوى المحلّي، ولكن العملية الانتخابية هي صراع أداته المال ووسائل الدولة على الميدان، فيما تبقى عملية المراقبة عبر هيئة الانتخابات مجرّد رقابة شكلية غير قادرة على تغيير قواعد اللعبة الحقيقية.
يعتقد سعيّد أن النظام الفردي هو النظام الأنجع لإقصاء الأحزاب، وهو الذي لم يخف في أكثر من مناسبة اعتقاده بتجاوز الأحزاب في إدارة الشأن العام في العالم نحو اختراع آليات جديدة يستهدف تأسيسها بعد سيطرته على إدارة البلاد.
مازالت فكرة النظام القاعدي بخصوص مسألة التصعيد في السلطة بيّنة، والرئيس عبر قانونه الانتخابي حمل شذراتها. نصّ على آلية سحب الوكالة التي لن تؤدي واقعًا إلا لوضع النائب تحت ابتزاز أو على الأقل ضغط الإبعاد من طرف معارضيه المحليين، إضافة لما سترتّبه هذه الآلية من عدم استقرار للعمل البرلماني. المشكل ليس في الآلية بحد ذاتها، القابلة للنقاش والتطوير، المشكل في التشريع الحالي والتنفيذ في المستقبل، في سياق تأسيس منظومة غير ديمقراطية عبر النظام السلطوي المؤسس دستورًا وليس حتى ممارسة.
إحدى العيوب الأساسية للنظام الفردي، في المجتمعات التي لا تزال تكابر من أجل المساواة بين الرجل والمرأة في العمل السياسي، هو صعوبة تصعيد امرأة أو شاب أيضًا، ولذلك عادة ما تعمد جلّ الأنظمة على اعتماد نظام الكوتة لضمان تمثيلية للنساء أو الشباب.
في قانون سعيّد، النساء والشباب مُطالبون بإعطاء التزكيات للمترشحين، ولكن لا ضمانة لتمثيلية لهم. يبدو مبدأ التنافس الحرّ والمساواة في الحظوظ مغريًا لعدم منح أي امتياز لأي فئة، ولكن في سياق شروط موضوعية مختلّة يصبح الامتياز ضرورة. بالنهاية، انتخاب برلمان تنعدم فيه تمثيلية المرأة أو لا تتجاوز مثلًا نسبة 10 في المائة، ونفس الأمر وإن بدرجة أقل للشباب، هو برلمان مختلّ بطبعه.
إن المشكل الآخر الذي يطرحه النظام الفردي وبالاطلاع على تقسيم الدوائر محليًا، هو ما قد يحمله من إعادة الاعتبار لمعيار الانتماء القبائلي/العروشي على حساب معيار الموقف السياسي وذلك كمحدّد للانتخاب. في دائرة انتخابية مثلًا تجمع مناطق الرديف وأم العرايس والمتلوي، إن التنافس لن يكون بين أفراد ممثلين لأفكار سياسية مختلفة، بل سيكون تنافسًا بين عروش هذه المناطق الثلاث سواء في الدور الأول أو الثاني. وما يعنيه هكذا تنافس من استعادة لخطاب ما قبل الدولة الوطنية ومن أدوات غير مشروعة قد تهدّد السلم الأهلية.
مشكل الرئيس سعيّد هو اعتقاده أن بناء جنّة في الأرض يستدعي تشريعًا ورديًا متخيًلًا، وهو ما يجعله يتجاوز الشروط الموضوعية على الأرض، وبما يؤدي بالتبعية لإنتاج حالة من الخلل والاضطراب في أبسط توصيف.
الرئيس أصدر مرسوم تنقيح القانون الانتخابي ينصّ مثلًا على لزوم حصول أي مرشح على 400 تزكية والحال أن بعض الدوائر خارج تونس لا يتوفر فيها 400 ناخب مسجّل، وهذا ما يكشف بوضوح عن غياب أي قدرة على دراسة الواقع دون أي حديث عن استشراف حتّى.
البرلمان المقبل عمومًا بصلاحياته المحدودة في نظام رئاسوي حيث يحكم ويسود الرئيس، وبنظام الاقتراع المعتمد، سيكون أشبه بمجلس بلدي لكن على مستوى وطني. يتصارع النواب على تحصيل فوائد لدوائرهم الانتخابية الصغيرة خشية أي سحب للوكالة، أي الانغماس في المحلّي على حساب القضايا الوطنية الكبرى أو القدرة على تشكيل قوة وازنة في مواجهة رئاسة الجمهورية التي تحتكر لوحدها الشأن الوطني العام، فيما تنحصر مهمة البرلمان في التشريع بحسب رغبة الرئيس لا أكثر ولا أقل.