يعدّ توفير ضمانات المحاكمة العادلة، حقًا أساسيًا وجوهريًا، للمشتبه به أو المتهم، بغض النظر عن الجريمة المتعلقة به أو التهمة الموجهة إليه، وهو حق كرّسته المواثيق الدولية على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 10) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14)، كما كرّسته المدونة الدستورية (المادة 27 في دستور 2014 ما يقابلها المادة 33 في دستور 2022).
وترتبط المحاكمة العادلة بضمانات ومبادئ في مقدّمتها قرينة البراءة، وقوامها أن كل متهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة. وإن ما كانت المحاكمة، في أي قضية مهما كانت طبيعتها أو تصنيف جريمتها، تستوجب احترام جملة من الضمانات القانونية لضمان أن تكون عادلة، فإنه تتصاعد الخشية من محدودية أو غياب هذه الضمانات في المحاكمة المتعلقة بالجريمة السياسية باعتبار أن هذا الصنف من الجرائم يتميّز، عمليًا، بتصاعد تأثير السلطة السياسية (السلطة التنفيذية تحديدًا) على المسار القضائي، خاصة إذا ارتبط بهشاشة استقلالية السلطة القضائية.
فتاريخيًا في تونس، ارتبطت القضايا الكبرى في الجرائم السياسية (مثل قضية التآمر على أمن الدولة عام 1962 زمن الحبيب بورقيبة أو قضية التآمر المعروفة بقضية "براكة الساحل" عام 1991 زمن بن علي)، بخروقات وانتهاكات جسيمة أدت لغياب مقومات المحاكمة العادلة، وهو ما جعل المتهمين في هذه القضايا ضحايا بتطبيق قانون العدالة الانتقالية بعد الثورة.
بذلك، يؤدي غياب ضمانات المحاكمة العادلة إلى شكوك حول شرعية ومصداقية الأحكام القضائية في القضايا المتعلقة بالجرائم السياسية، خاصة إن كان المتهمون من المعارضين للسلطة، بما يجعل من المحاكمات سياسية بحتة أي أنها محاكمات أثارتها السلطة عبر توظيف القضاء لاستهداف خصومها السياسيين.
في هذا السياق، اُثيرت مؤخرًا القضية التي تُعرف إعلاميًا بـ "التآمر على أمن الدولة"، التي شملت التتبعات فيها 17 شخصية بينها معارضين من تيارات سياسية مختلفة، أصدر قاضي التحقيق المتعهد قرارات بالإيقاف التحفظي بحقهم، وهم الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، والناشطين السياسين المستقلين خيام التركي وعبد الحميد الجلاصي إضافة لثلاث قيادات من جبهة الخلاص الوطني هم جوهر بن مبارك وشيماء عيسى ورضا بالحاج، وكذلك الناشط السياسي لزهر العكرمي الذي اُفرد ببحث تحقيقي منفصل.
تطرح هذه القضية أسئلة جديّة حول مدى توفّر ضمانات المحاكمة العادلة، خاصة وأن دور الفاعل السياسي، وهو رئيس الدولة على وجه الخصوص، ظهر صريحًا غير مخفيّ، خاصة في سياق تصاعد نفوذ السلطة التنفيذية على القضاء. وهو ما يعزّز الشكوك حول الدوافع الحقيقية للقضية المثارة، التي تعهّد بها القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وذلك مع تواتر المؤشرات حول النزوع السلطوي وتصاعد المساس بالحقوق والحريات الفردية والعامة. فما هي مؤشرات محدودية مقومات المحاكمة العادلة في هذه القضية؟
• انطلاق التتبعات بطلب من وزيرة العدل
مع الالتزام بمبدأ سريّة الأبحاث والتحقيق، لم يكن معطى تدخّل السياسي في انطلاق المسار الإجرائي للقضية أن يُخفى كيفما أكدته هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين، وذلك بأن وزيرة العدل وجهت مباشرة للمكلّف بأعمال وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس طلبًا، بتاريخ 10 فيفري/شباط 2023، بفتح بحث بعد تلقيها تقريرًا من جهة أمنية. لم تبدأ القضية إذًا بمبادرة تلقائية من النيابة العمومية، مع الإشارة إلى أن وزيرة العدل لا تمارس أي سلطة، طبق القانون، على قضاة النيابة، وهم لا يأتمرون بأوامرها.
يعكس تدخل وزيرة العدل في إطلاق الدعوى العمومية مؤشرًا أوليًا على دور الفاعل السياسي في هذه القضية، مع العلم أن الوزيرة طالما لجأت، منذ 25 جويلية/يوليو 2021، في عديد المناسبات للتدخل في إثارة الدعوى العمومية ضد سياسيين من بوابة الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يبيح لها أن تطلب من الوكيل العام بمحكمة الاستئناف إجراء تتبعات قضائية، وهو الفصل الذي طالما ظلّ مهجورًا في الواقع القضائي، إضافة إلى كونه فصلًا غير دستوري حسب لجنة مراجعة مجلة الإجراءات الجزائية، وفق تقريرها المنشور بموقع الوزارة نفسه، باعتباره يتعارض مع مبدأ استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية.
• استباق رئيس الدولة للإدانة يعصف بقرينة البراءة
يعدّ مبدأ قرينة البراءة وهو أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة، مبدأ أساسيًا، بيد أن هذا المبدأ تجاوزه رئيس الجمهورية الذي استبق بإعلان حكم الإدانة ليس فقط قبل صدور حكم قضائي بل حتى قبل تعهيد قاضي التحقيق بالملف. استباق رئيس الدولة للإدانة، في هذا الملف، يعزّز الشكوك حول مدى قدرة القضاة المتعهدين بالملف على ممارسة مهامهم باستقلالية بعيدًا عن ضغوطات وتدخلات السلطة السياسية.
صرّح رئيس الدولة قيس سعيّد لدى استقباله وزيرة العدل بتاريخ 10 فيفري/شباط 2023 أنه "من غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم"، وهو ما يشي بإقرار للزوم الإدانة قبل تمكين المتهمين حتى من الدفاع عن أنفسهم في محاكمة عادلة.
مباشرة إثر انطلاق حملة الإيقافات، توجه سعيّد لمقرّ وزارة الداخلية لشكر القيادات الأمنية على دورها، وتوجّه أن "هؤلاء من تم اعتقالهم هم إرهابيون"، وأنه "أثبت التاريخ قبل أن تثبت المحاكم أنهم مجرمون"، ولم يتردّد رئيس الدولة في الاعتراف بأن النيابة العمومية لم تكن متفاعلة، بالشكل المطلوب سياسيًا، معتبرًا أن التعلّل بالإجراءات غايته طمس الحقيقة بحسب قوله.
يعزّز هذا الاعتراف واقع الضغط السياسي الذي يواجهه القضاة اليوم عمومًا، والقضاة المتعهدين بالملفات ذات الصبغة السياسية خصوصًا، بما يمسّ بواحدة من أهم ضمانات المحاكمة العادلة وهو استقلال القضاء.
• استقلالية القضاء.. الضمانة المجروحة
لا يمكن ضمان محاكمة عادلة لأي شخص دون ضمان محاكمته من قبل قضاء مستقلّ ومحايد عن أي جهة. بعد ترافع هيئة الدفاع عن ثلاث محالين في قضية "التآمر" أمام قاضي التحقيق المتعهد، قرّرت، في بيان صدر فجر يوم السبت 25 فيفري/شباط 2023، مقاطعة الترافع عن بقية المحالين لقناعة بأن بطاقات الإيداع جاهزة باعتبار أن دوافعها سياسية وليست قضائية.
توجد قناعة تامة على وجود شكوك حول قدرة القضاة على ممارسة أعمالهم بعيدًا عن ضغوطات السلطة السياسية التي أضعفت استقلالية القضاء منذ 25 جويلية/يوليو 2021 توازيًا مع تغوّل دور السلطة التنفيذية.
تجاوزًا لدستور 2022 الذي ضرب مقومات الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للقضاة (عدم دسترة المجلس الأعلى للقضاء، وعدم دسترة تحجير التدخل في أعمال القضاة، وتصاعد دور رئيس الدولة في تسمية القضاة إلخ)، يمثل المرسوم عدد 35 لسنة 2022 سلاحًا وضعته السلطة على رقاب القضاة، إذ يسمح المرسوم لرئيس الدولة، وعلى أساس تقرير من جهات مخوّلة (وزارة الداخلية مثلًا)، أن يعفي القاضي دون سابقية القيام بأي تتبع تأديبي حتى تجاهه ودون تمكينه حتى من حق الدفاع عن نفسه كتكريس مبدأ المواجهة.
وقد قام سعيّد، واقعًا، بإعفاء 57 قاضيًا يوم 1 جوان/يونيو 2022 جلّهم من قضاة النيابة العمومية والتحقيق، وقد أكدت شهادات علنية لعدد من القضاة المعنيين أن سبب إعفائهم جاء على خلفية عدم استجابتهم لطلبات من السلطة السياسية أو الأجهزة الأمنية، مع العلم أن 49 قاضيًا منهم تحصّل على قرارات باتّة من المحكمة الإدارية لإيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء وبالتالي عودتهم لعملهم، بيد أن السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ووزيرة العدل امتنعا عن تطبيق أحكام القضاء.
ساهم هذا المناخ في بث جو من الخوف والرعب في أوساط القضاة اليوم، وبالتالي يعزّز الشكوك حول استقلالية النيابة العمومية من جهة وقضاة التحقيق من جهة أخرى في القضايا المثارة ضد السياسيين كقضية التآمر. فخلال أسبوع تعهّد قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بملف هذه القضية، تم إيقاف قاضي تحقيق بنفس القطب عن العمل على خلفية إبقائه لمتهم بحالة سراح، وذلك تمهيدًا لإعفاء القاضي كيفما أكدت جمعية القضاة التونسيين في بيان، بتاريخ 4 مارس/آذار 2023، تحدث عن ضغوطات كبيرة وغير مسبوقة يتعرض لها القضاء بعد الإيقافات والملاحقات التي شهدتها البلاد في المدة الأخيرة، وتضمن دعوة للسلطة التنفيذية بالكفّ عن الإجراءات الانتقامية ضد القضاة.
• تطبيق قانون مكافحة الإرهاب.. إجراءات استثنائية ضد "إرهابيين"؟
تضمنت لائحة التهم الموجهة ضد السياسيين المعارضين في قضية التآمر جرائم في المجلة الجزائية (منها التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي) وأيضًا جرائم واردة في قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015 (منها تكوين تنظيم إرهابي)، ليتمّ، تبعًا لذلك، إعمال الإجراءات الخاصة الواردة في القانون المذكور على حساب الإجراءات الجارية في المسار الجزائي العادي.
إذ يسمح قانون مكافحة الإرهاب بمنع اتصال المشتبه به بمحاميه طيلة 48 ساعة وهو ما تم تطبيقه في قضية الحال، كالاحتفاظ بهم قبل تعهيد قاضي التحقيق لمدة تصل لـ15 يومًا وهي المدة التي تم استنفاذها أيضًا. كما قام الملف على شهادتين من شاهد ومخبر تم حجب هويتهما بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب، وقد رفض قاضي التحقيق الاستجابة لطلب الكشف عن هويتهما للتعرّف عليهما بغاية مكافحتهما أو التجريح فيهما إن اقتضى الأمر.
إن الإجراءات الخاصة الواردة في قانون مكافحة الإرهاب (منع الاتصال بالمحامي لمدة 48 ساعة والاحتفاظ لمدة 15 يومًا وحجب هوية الشاهد إلخ) كتعهيد قطب قضائي مختصّ يضم قضاة من ذوي التكوين أو الخبرة في القضايا الإرهابية، جميعها إجراءات تخفّض من ضمانات المحاكمة العادلة لحساب مقومات الإثبات في الجريمة الإرهابية في إطار محاولة للموازنة بينهما حينما تم إعداد قانون مكافحة الإرهاب عام 2015، إذ أن الإجراءات الخاصة الواردة بالقانون لم يتم سنّها إلا بغاية حسن المعالجة القضائية للجريمة الإرهابية، كالتي عرفتها البلاد من المجموعات المتطرفة في السنوات الأخيرة، ولكن ليس بغاية توظيفها في القضايا المثارة من السلطة ضد المعارضين، كما يحدث في صورة الحال.
تتعزّز شبهة الانحراف باتجاه تطبيق قانون مكافحة الإرهاب للاستفادة من الإجراءات الخاصة الواردة ضمنه بما كشفته هيئة الدفاع عن الموقوفين بأن قرائن الإدانة التي تم تكوينها لم تكن واقعًا إلا نتيجة الأعمال الفنية بعد حجز الهواتف الجوالة للموقوفين ومعاينة محادثاتهم المتضمنة لتبادل الأراء وتنسيق اللقاءات عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي.
في هذا المضمار، تتعزّز المخاوف من إمكانية اللجوء لإجراءات استثنائية تمسّ من مقومات المحاكمة العادلة، بل حتى إمكانية إنشاء محاكم استثنائية كالتي عرفتها البلاد في عقود سابقة (مثل محكمة أمن الدولة والمحكمة العليا)، خاصة وأن دستور 2022، ودون أي مبرّر، تخلّى عن الفصل الوارد في دستور 2014 الذي تضمن تحجير إنشاء محاكم استثنائية أو سن إجراءات استثنائية.
في الختام، تشهد ما تسمّى قضية "التآمر على أمن الدولة" محدودية شديدة في توفر ضمانات المحاكمة العادلة خاصة في ظلّ هشاشة استقلالية السلطة القضائية، بل التدخّل الصريح والعلني لرئيس الدولة ووزيرة العدل في المسار الإجرائي للقضية بداية من إثارتها وصولًا لاستباق رئيس الدولة بإصدار حكم الإدانة قبل إتمام قاضي التحقيق المتعهد لأعماله. بذلك، تتأكد المخاوف بأن هذه القضية ليست إلا محاكمة سياسية تستهدف معارضي السلطة، فيما يظلّ الرهان على قدرة المعنيين بشأن العدالة، القضاة والمحامين، على النأي بالجهاز القضائي عن مخططات التصفية السياسية.