"السترات الحمراء"... ليست مسألة ألوان، بل نظّارات لاستقراء الواقع..
نترك جانبا "نظرية المؤامرة" وما تستتبع من ادوات التخوين/الترذيل وموسوعة كاملة من الأحكام المطلقة/القطعية، ونحصر الإهتمام بالبعد المباشر في علاقة بالفعل وردّ الفعل…
مبادرة "السترات الحمراء" نبتت في عقول أصحابها في صورة "نسخ/لصق" لتجربة فرنسية نجحت (على الأقل) في التحول إلى ظاهرة احتلت صدارة المشهدين الاجتماعي والسياسي في فرنسا دون أن ننسى الاعلامي ومن ورائه الفكري/الفلسفي…
القول بقدرة التجربة التونسية على الاستفادة بل الركوب على الزخم الذي صاحب التجربة الفرنسية يحمل على كثير من التبسيط وحتى السذاجة.
السترة الصفراء (السترة في ذاتها) في فرنسا اداة متوفرة بحكم القانون والتعود مع كل سائق وكل سيارة، وبالتالي هي جزء من طبيعة الأشياء، في حين ان نظيرتها الحمراء جاءت بقرار "نخبوي/فوقي" حين لا عادة ولا تراث في تونس لدى السائقين لأي صنف من السترات مهما كان اللون....
كذلك، في فرنسا نشأت الحركة من أسفل المجتمع في رفض لا يزال خالصا لأي "استغلال/ركوب" سياسي/نقابي، في حين ان "الفعل" في تونس ياتي في عمقه منخرط ضمن الصراع السياسي القائم/القادم بين قرطاج والقصبة او هو منجر حتما للاصطفاف في احد المحورين، إن لم يكن بالفعل المباشر، فسيكون بالمصلحة وطبيعة الصراع…
خلاصة: نوايا لا يمكن الطعن فيها لكن سنشاهد تجربة أقرب إلى معارك "البطحاء" بين "باندية" [فتوات] السياسة ولن تكون بالزخم الفرنسي، لأن "المتبدلة مذبالة ولو كان عروقها في المال" (وليس الماء)....
الأصوات التي انبرت لشتم "مبادرة السترات الحمراء" من باب أنها "مؤامرة" لم يطرحوا السؤال "الأهم" عن الأسباب التي تجعل "المؤامرة ممكنة" أو قابلة للتحقيق، أو ربّما (على الأقل) امكانية "الشروع فيها"…
اي عقل ناقد ومراقب فطن قد (وأقول قد) يقبل أو يجد من طبيعة الأشياء أن ينعت "عامة الناس" من يخالفهم بالمؤامرة، أو يدنّسوا من هم على خلاف معه... لكن غريب بل مصيبة أن تكتفي "النخب" (او من صدروا انفسهم لهذا الدور) من اعلاميين وسياسيين بدور "الإشارة" إلى "المؤامرة"…
بالمفهوم العسكري علينا أن نتجاوز السؤال عمن اشعل الشرارة للبحث والتقصي عمن ملأ برميل البارود، لأن أي شرارة لا قيمة لها ولا خطورة في غياب برميل البارود (هذا)…
عندما نتلبس الموضوعية بعقل بارد، يمكن الجزم ان "السترات الحمراء" (أو من يقف وراءها) يريد نصيبه من كعكة السلطة، بمنطق ان الجميع عراة في نفس الحمام ولا أحد اشرف من احد…
في بلد يمارس فيه رئيس الوزراء حربه الانتقائية/الانتقامية على الفساد، ويمارس فيه رئيس الجمهورية العفو الانتقائي على المجرمين، ويعفي فيه مجلس نواب الشعب أباطرة الفساد من الزيادة في الضرائب، من حق أي كان أن يمارس العنف/الابتزاز من أجل الحصول على نصيبه من الكعكة…