شكّل سقوط أدوات السيطرة التي كان نظام بن علي يُحكم بها قبضته على الآلة الإعلاميّة فرصة لأهل الإعلام للخروج عن الضوابط التي كانت قائمة وكذلك شكّلت فرصة للذهاب بهذا الإعلام إلى حدود لم تكن معلومة من قبل.
هذا «الانعتاق» لم يأت فعلا فكريا أو مرتكزًا على قناعات ذهنيّة أو حتّى أيديولوجيّة وثقافيّة، بل هو في أغلبيته المطلقة مجرّد ردّ فعل وبحث عن أمرين:
أوّلا: السعي لتأسيس مجالٍ وادراكِ حيزٍ ضمن واقعٍ اعلاميٍّ، فهم الجميع أنّه بصدد التأسيس ومن ثمّة كانت ضرورة الإسراع بحثا عن موقع يتأسّس من خلال الموقف.
ثانيا: القفز فوق الماضي والسعي لتجاوزه، من خلال المزايدة في «الخطاب الثوري» والسعي للتفوّق في ذلك على بقيّة الأدوات الإعلاميّة، بل على الإعلاميين الأخرين.
من ذلك تحوّلت الساحة الاعلاميّة إلى بطحاء للمزايدة اللفظيّة والسعي إلى «تحطيم أرقام قياسيّة» ليس فقط من خلال المنطوق الصحفي، بل (وهنا الخطورة) في فتح المجال أمام من هبّ ودبّ ليقول ما أشاء وأراد، ضمن «شعبويّة» لم تكن من غاية وراءها سوى «ارتشاء» هذا العمق الشعبي خاصّة، وجعله يتغاضى أو ينسى ما كان زمن بن علي، سواء من تعاطي مؤسّسات الدولة أو فعل الأشخاص داخل هذه المؤسّسات.
فهم الأغلبيّة إن لم تكن الأغلبيّة الساحقة هذه «الحريّة» (الجديدة) في شكل «غرائزي» لا غير:
أوّلا: يمكن قول ما نشاء عمّن نريد ما دام «المنطوق» يحاكي أو يتدثّر برداء الثورة.
ثانيا: جعل الاعلام ووسائله وسيلة للتفريج عن «كبت» السنين الخوالي، حين لم يكن هذا الاعلام سوى ماكينة لتبييض صاحب النظام وتلميع صورته.
نتج عن هذا بصفة تكاد تكون مباشرة بل آليّة، أن تحوّل «الخطاب الثوري» من قضايا جامعة، لخصتها شعارات الشارع في فترة 17/14 إلى «التعبير» أو هو الشكوى عن «مآسي فرديّة» وذات بعد ذاتي ومباشر، أيّ تمّ «تفتيت المطلب الثوري» إلى طيف واسع جدّا من المطالب الفرديّة، فتحوّل الخطاب وانقلب الشارع (بفعل هذا الاعلام) من «مشروع ثوري» إلى «مطالب فئويّة وجهويّة ومهنيّة»، وقد عمل الإعلام على تعميق الهوّة من خلال التركيز المفرط على هذه «المطالب الفرديّة»، ممّا دفع «الوعي» من المطالب الجامعة إلى مطالب فرديّة، تتعارض مع بعضها بل تتصارع.
غياب قيادة ثوريّة (منبعها الشارع) وعدم تماثل سلطة ما بعد 14 جانفي مع أيّ «نفس ثوري»، يمكن الجزم أنّها من الأسباب التي جعلت المشهد يفقط صفاءه «الظاهر» يوم 14 عشيّة، حين لم يجد النفس الثوري متنفسّا غير قنوات ومحطات ووسائل إعلام ركّزت على التفتيت، وإعلام مكّن أزلام النظام السابق (بالتدريج) من العود وممارسة أوسع عمليّة تبييض ممكنة في تاريخ الاعلام التونسي.
موضوعيا، لم يكن أحد ينتظر من إعلام حكومة محمّد الغنوشي أو إعلام حكومة السبسي، أن يتجاوز حدّ «التوازنات» الممكنة أو المطلوبة، بل الصدمة جاءت من حكومة ما بعد 23 أكتوبر، التي صعدت على أساس انتخابات المجلس التأسيسي صاحب السلطة الأوسع، لكنّ هذه الحكومة لم تتّخذ من القرارات ما يقطع في الحدّ الأدنى مع ممارسات العهد السابق أو رجالاته أو حتّى أسلوبه في التعاطي الاعلامي، بل (وهنا الخطورة) جاءت من خلال «المداورة» مثلما كان نظام بن علي، بل جعلت من هذا التعاطي قاعدة، وأعادت إلى الواجهة وعينت وثبتت عديد الوجوه التي أسّست للقمع وكانت من أشدّ أدواته…
جاء تعامل حكومة الجبالي خطيرًا جدّا على المسار الثوري، حين كسب «اعلام العار» ليس فقط «نصيرًا» جديدًا، بل (وهنا الأخطر) «شريكًا» بأتمّ معنى الكلمة، حين لم تملك حكومة الجبالي وأحزاب الترويكا التي وراءها الحدّ الأدنى من الوعي بمستلزمات الثورة، بل جاءت مدافعة عن وجودها في السلطة وعن ذاتها في الممارسة ضمن (ما تراه من) توازنات داخلية واقليميّة ودوليّة، وبالتالي ليس فقط أضاعت على الثورة والبلاد فرصة ذهبيّة، بل مكّنت الأزلام واعلامهم من شرعية لم يكونوا يحلمون بها، وعودة إلى المشهد لم يكن أحد منهم يخطّط أن تكون بهذه السرعة.
منذ ذلك التاريخ، فقط الساحة ذلك الصفاء على مستوى التشخيص بعد أن فقدت القوى الثوريّة أو هي عجزت في السيطرة على دواليب الدولة ومن ورائها قطاع الإعلام.
في التوازي مع هذا «الردّة»، أرادت القوى الصاعدة ما بعد 14 جانفي التأسيس لإعلام لها، يمكّن افتراضيا من احداث التوازن ويجعل هذه «القوّة» تحتل جزءا ضمن المشهد يوازي أو يمثّل الحدّ الأدنى من وزنها السياسي وعمقها الجماهيري.
نبتت عديد القنوات الفضائيّة والمحطات الإذاعية والصحف والمواقع الاعلاميّة، وقدّمت نفسها أو حاولت الحديث بإسم الثورة أو تلبّس الخطاب الثوري، ومن ثمّة وضعت نفسها عن وعي وإدراك أو غير قصد في علاقة نفي مع «إعلام العار» الذي أعاد ترتيب صفوفه وتركيز أدوات العمل لديه.
هذه الأدوات الجديدة، حسبت أنّ مجرّد كسب وسائل انتاج إعلاميّة (بالمفهوم المادّي) ونطق خطاب ثوري أو متلبّس بالثورة، كفيل وحده ودون أدنى الحاجة إلى شيء أخر، لقلب المعادلة وكسب العمق الشعبي، حين جاء الرهان منذ عشية 14 جانفي، على من يصل إلى هذا «العمق الشعبي» ومن «يسيطر عليه»....
تتالت الصدمات وتوالت النكسات، لم يكن هذا «الخطاب الثوري» قادر بذاته على جعل هذا العمق الشعبي ينزاح عن «اعلام العار» وكذلك، سقطت هذه الوسائل («الثوريّة») لتكون مجرّد أداة لخدمة المشروع السياسي للجهة التي تموّل والطرف الحزبي الذي يحرّكه، ومن ثمّة هاجر هذا الإعلام بفعل الفشل في الشدّ واكراهات التموقع السياسي، رويدًا رويدًا ليقلّد «اعلام العار»…
يمكن الجزم بإمكانية الحديث عن «اعلام الغباء» حين تأسّس هذا الاعلام على مبدأ:
أوّلا: الهروب إلى الأمام: أيّ عدم القدرة على قراءة العوامل الموضوعيّة لفشله واعتباره أنّ «الخطأ» يعود (في الأقصى) إلى أفراد وجب تغييرهم.
ثانيا: اعتبار تلبّس «الخطاب المعادي» لأعلام العار كاف لوحده، ليؤسّس لشرعية مطلقة وغير محدودة في القيمة أو في الزمن.
عندما نجري تشخيصًا بسيطا لواقع اعلام الغباء هذا اليوم، ندرك بما لا يدع للشكّ ما يلي:
أوّلا: الهجرة من «الخطاب الثوري» إلى «خطاب اعلام العار» دون أدنى قدرة على تلطيف هذا التحوّل، بل هناك من جعله دليل نجاح.
ثانيا: سقطت هذه الوسائل (بدرجات متفاوتة) في معترك التنابز السياسي وتحوّلت إلى منابر للصراع الفرجوي أسوة بما كانت هي ترفضه من أسلوب، أو (والأخطر) من دعوة لمن كانت تعتبرهم «وصمة عار» لا يمكن التعامل معهم.
خلاصة: يمكن الجزم أنّنا أمام أمرين:
• أوّلا: عجز تام من هذا الإعلام (برمتّه) على التلاقي مع الحدّ الأدنى الضامن للتحوّل نحو الاستقرار المطلوب.
• ثانيا: تفاقم متزايد للوضع الأمني وعودة بالكامل إلى واقع ما قبل 14 جانفي، مع فارق أنّنا أمام بارونات مال وفساد، في حين احتكر بن علي وحده (في عهده) المال والفساد.