قد يكون الفرزدق و جرير من أعظم و أشعر الشّعراء، و من أبرع من طوّعا اللّغة و سبكا الكلمات و نسجا القصائد ،وصفا ،مدحا و هجاء،غير أنّ علوّ كعبهما ،تألّقهما و تفرّدهما لم يمنعهما من السّقوط في خطيئة أغلب الشٌعراء، إذ انخرطوا كغيرهم في مدح و تلميع الطّغاة ،ولّاة و أمراء.
قال الفرزدق في الطّاغية السفّاح الحجّاج بن يوسف الثقفي:
و ما يأمن الحجّاج و الطّير تتّقّي****عقوبته الّا ضعيف العزائم.
فأجابه الحجّاج بأنّ جرير قد قال فيه ما هو أبلغ من ذلك:
فما يأمن الحجّاج أما عقابه***فمرّ و أمّا عقدة فوثيق.
يسرّ لك الشحناء كلّ منافق***كما كلّ دين عليك شفيق.
كان الفرزدق و جرير يتنافسان في مدح الطّاغية الظّالم و كانا بوقين لتلك السّلطة الغاشمة،يتملّقان و يزيّنان ظلمها و قبحها بصورهم الشعرية الجميلة،و كغالبيّة الشّعراء في عصرهما و عصر ما قبلهما و ما بعدهما، امتهنا بيع كلماتهم لمن يدفع لهما،اختارا الطّريق السّهلة الممهّدة ،المعبّدة، المقامة على جماجم الضّحايا و المرويّة بدموع و دماء الأبرياء و المستضعفين ،و تحاشوا الطّريق الّتي لا يسلكها الّا قلّة، طريق الصّعاب و الأشواك و المواجهة و الاشتباك،طريق الأحرار الّتي سلكها فيما قبل الشّعراء الصّعاليك،من تمرّدوا على سلطة القبيلة الغاشمة و رفضوا قوانينها الباليّة الظّالمة و اصطفّوا الى جانب الفقراء المستضعفين و المظلومين.
طريق تأبّط شرّا و عروة ابن الورد و السّليك ابن السّلكة و الشّنفرى صاحب لاميّة العرب الخالدة الّتي تبقى مرجعا للغة العرب و لأخلاقهم في عصر جاهليتهم الأولى و التي افتقدناها في جاهليّتنا المعاصرة.
و هو نفس طريق روبين هود من جعلوه في الغرب أيقونة الشّجاعة و الإيثار و البطولة و القيم النّبيلة.
طريق التحرّر و مقاومة الظّلم و الاضطهاد. هما طريقان لا ثالث لهما إمّا أن تعيش حرّا صعلوكا أو أن تحيا عبدا مملوكا!
و قد اختار الشّاعر عبد الرّحمان يوسف القرضاوي أن يكون حرّا صعلوكا، ألم يقل في قصيدته الّتي زلزلت عروش الطّغاة:
و لست الفرزدق لست جريرا***لكي يطمع البعض أن اشترى.
أنا شاعر الثّورة...اخترت دربي***"يناير"يا مجدنا المشهرا.
وإن كان لي من شبه فإنّي***تأبّط شرّا...أو الشّنفرى.
اختار الشّاعر الثّائر المقاوم طريقه الّتي ارتضى،شعرا، نثرا و سلوكا.
قال في حسني مبارك ما لم يقله أحد و كان في الصّفوف الأولى في ثورة يناير و رغم كونه ابن الدّاعية العلّامة المجدّد يوسف القرضاوي رحمه اللّه فقد نشط مع فريق محمّد البرادعي ثمّ كمستقلّ و لم يركن إلى أيّ سلطة كانت حتّى في فترة الرّئيس الشهيد محمّد مرسي ليغادر مصر بعد الانقلاب و يستقرّ في تركيا و يحصل على الجنسية التّركية.
لاحقته سلطات الانقلاب و طاردته و اصدرت في حقّه حكما بالسّجن لمدّة خمس سنوات و ادرجته في قوائم الإرهاب كما سجنت أخته و زوجها.
الشّاعر،المثقّف العضوي الّذي لا يملك سوى كلماته و قلمه،أزعج الكثيرين و أقرّ مضاجع الكثيرين، فرح لفرحة الشّعب السّوري مثل الكثيرين فزار دمشق مهنّئا و محذّرا من ألاعيب و مؤامرات الثّورة المضادّة فلم يعجب ما قاله حتّى بعض المنتسبين للثّورة من يرغبون في تصفير المشاكل،لم يخطر بباله أو ببال أحد أن يقع اختطافه في بيروت عاصمة الثّقافة العربيّة سابقا و ملجأ المعارضين،و لم يجر بخلد أحد أن تنجح حكومة تصريف أعمال ،عاجزة على اتّخاذ قرار يخصّ حاجات شعبها الملحّة، في استصدار قرار مستعجل لتسليم شخص مسالم أعزل لجهة مشبوهة و متّهمة بارتكاب جرائم التّعذيب لا علاقة لها بذاك الشّخص سوى ما صدر منه من آراء و أشعار فيه مسّ من شعورها.
عار على حكومة المقاولات أن تتصرّف كعصابة و تجري صفقة مع عصابة مهما كان ثمن الصفقة،و عار على حكومات و مخابرات دول ثلاثة أن تتصرّف كعصابة و تستنفر لاصطياد فرد واحد أعزل و جد نفسه يتيما وحيدا بالرّغم من جنسيته التّركية الّتي يحملها إلى جانب تلك المصرية.
عار يضاف إلى أصحاب العار و يلطّخ كذلك هواة التّصفير و الأصفار ، عار سيذكركم و بذكركم سيفسّر العار و الشنّار،و كما قال فيكم شبيه الشّنفرى :
فياكلّ طاغية في علاه***مقامك عندي أن تزدرى.
ما يحصل لعبد الرّحمان يوسف القرضاوي ،شاعر الثّورة و الأحرار عاديّ و طبيعيّ و هي ضريبة من يسلك ذاك المسار، هي نياشين فخر و أوسمة عزّ و هو من اختار طريقه و نعم الاختيار:
أيا سائلي أيّ سيجرى***سأمضي لحتفي مستهترا.
أباحوا دمي من قديم الزّمان***و ما أطفؤوا داخلي مجمرا