حينما توجّه أهالي درعا الى مقرّ فرع الأمن السّياسي للاستفسار عن مصير أطفالهم الّذين تبخّروا في لمحة عين في يوم من أيّام فبراير سنة 2011، طلب منهم عاطف نجيب رئيس الفرع و قريب بشّار الأسد بكلّ صفاقة بأن ينسوا أنّ لهم أطفالا مضيفا بأنّه بإمكانهم إنجاب آخرين،هكذا بكلّ بساطة!
كانت تهمة الصّغار ،تلامذة مدرسة الأربعين تتمثّل في خطّهم على الجدران شعارات مندّدة بالنّظام و تحرّض على اسقاطه، الشّعب يريد اسقاط النّظام، ذاك الشّعار الرّهيب الّذي ولد في تونس موطن ثورات الرّبيع العربي لينتشر في كلّ ربوع أوطاننا المحتلّة من المحيط إلى الخليج فيوحّد السّاحات و الحناجر كصرخة شعوب مقهورة مضطهدة في وجه منظومات استبدادية استباحت شعوبها و استعبدتها و فعلت فيها ما لم يفعله الاحتلال الأجنبي الغريب.
درعا الّتي شهدت ارتقاء أوّل شهيدين للثّورة السّورية، حسام عبّاس و محمود جوايرة، و هي الّتي كانت مسرحا لأشنع عملية تعذيب للطّفل حمزة الخطيب صاحب الأربعة عشر ربيعا و الّذي تلقّى رصاصة في ذراعه اليمنى، و أخرى في اليسرى و ثالثة في الصّدر و اقتلعت عيناه و قطع عضوه التّناسلي.
انتهاكات و تعذيب و اختطاف و اختفاء قسري و مجابهة متظاهرين سلميين بالرّصاص الحيّ ثمّ بالبراميل المتفجّرة وصولا الى الكيمياوي، هكذا جوبهت جماهير خرجت تطالب بالكرامة و الحرّية،خرجت في البداية بصدورها العارية و هي تهتف و تنشد أغاني الحرّية و ترقص على نغمات الدبكة السورية، و هل ننسى ابراهيم القاشوش الّذي ذبح و اقتلعوا حنجرته ثمّ رموه في نهر العاصي بعد أكبر مظاهرة شعبية شهدتها سوريا في حماة في الفاتح من يوليو سنة 2011!
هكذا كانت استجابة النّظام السّوري المجرم لتطلّعات شعب ارهقه القمع و الاستبداد طيلة عقود،مزيد من القمع و القتل و التهجير.
لم يترك هذا النظام الإبادي أيّ طريقة للقتل الّا و مارسها في حقّ شعبه تحت شعار :"إمّا الأسد..أو نحرق البلد"، حرق البلد فعليا، استجلب كلّ غزاة العالم،حوّل سوريا إلى ساحة للصّراعات الإقليمية و الدّولية،مزّق سوريا إربا إربا،قتل مليون إنسان و سجن مثلهم و هجّر 7ملايين من السوريين في الدّاخل و مثل ذلك العدد في الخارج،كلٌ ذلك لأجل كرسي ما دام لأحد!
تحرّكت اليوم درعا بعد أن تحرّرت كلّ من حلب و حماة و حمص،قتلوا الأطفال و الأجنّة في بطون أمّهاتهم خوفا من هذا اليوم و لم يمنع ذلك من أن تشرق شمسه من جديد.
كطائر فينيق ينهض من تحت الرّماد انتفض ثوّار سوريا بعد أن ظنّ الجميع بأنّ الثورة ماتت و دفنت و كأنّها موجة أخرى لربيع آخر أو ربّما كانت نتيجة مباشرة لطوفان الأقصى.
سوف تتحرّر كلّ بقعة من أرض الشّام الطيّبة لتتطهّر و تتخلّص من أبشع نظام استبدادي إبادي لا يقلّ بشاعة عن نظام الاحتلال الصهيوني من يدّعي استعداءه و مقاومته و يتبادل معه أدوار المماتعة ،مقاومة ممتعة جعلت الكيان المحتلّ يقرّ عينا و يطمئنّ بوجود حارس أمين مثله إلى درجة أن لم يفكّر في جبهة الجولان المحتلّ الّا هذه الأيّام، بعد أن استشعر امكانية سقوط نظام بشّار،هذا النّظام الّذي لم يطلق رصاصة واحدة في اتّجاه من يدّعي أنّه عدوّه ليجعل رصاصاته و كلّ سلاحه موجّها حصريّا في اتّجاه شعبه.
و مازال البعض يلوك علكة المقاومة و الممانعة و الحفاظ على وحدة سوريا مع أنّ سوريا حاليا محتلّة من قبل إيران و روسيا و تركيا و الولايات المتحدة الأمريكية و الكيان الغاصب الخارجي و تحوّلت بفضل الكيان الغاصب الدّاخلي إلى ملفّ أزمة مطويّة في أدراجهم.
و مازال آخرون يتّهمون هؤلاء المهجّرين المتطلّعين للعودة الى ديارهم بكونهم أجانب و ارهابيين لمجرّد أن أطلقوا لحيهم أو بسملوا أو كبّروا،ليرموهم بالعمالة و الصّهينة، مع أنّ من يدعم نظام بشار المجرم و يريد رسكلته و تدويره هو النّظام العربي الرسمي و على رأسه الفريق الأشدّ تصهينا و المنخرط في التطبيع المجاني و المذلّ إلى حدّ النّخاع.
كيف نصدّق نظاما رسميّا عربيّا جبل على العمالة و الخيانة و الجبن عجز عن أن يوصل قطعة خبز و قارورة ماء إلى غزّة المحاصرة و الّتي يساهم في حصارها و يسند في اجرام الكيان الغاصب الطّارئ ،صار اليوم يتخوّف من قطع خطوط إمداد المقاومة و يصف من يتطلّع للحرّية و الكرامة بالإرهابيين و العملاء للكيان الصهيوني؟
لم يخش الكيان الغاصب شيئا أكثر من خشيته تحرّر الشّعوب و امتلاكها لإرادتها و قرارها، بل إنّ تحرير الأراضي المحتلّة يمرّ ضرورة عبر تحرّر الشعوب و تخلّصها من الاحتلال الدّاخلي الأشدّ بطشا من ذاك الخارجي.
لا غرابة في هذا التّضامن الرسمي العربي و اجتماعهم على كلمة سواء في قمع شعوبهم و تأمين كراسيهم و تأبيد حكمهم و العجيب أن يتوافق ذلك مع من يصنّفون أنفسهم كمحور مقاومة و يتّفق حتّى مع من يدّعون مقاومته،اتّحدت سرديّاتهم في خلطة عجيبة ضمّت الصّهاينة و الغرب و روسيا و إيران و المطبّعين العرب.
لن يوحّد سوريا الممزّقة سوى هذه الثّورة و هي باب لتوحيد السّاحات و الرّايات و لقيامة الإنسان و الأمّة و لن تحرّر القدس سوى هذه الثّورة.
طوفان الشّام ليس الّا وليد طوفان الأقصى.