من إعجاز اللّغة العربيّة أن لا يوجد ترادف محض و كلّ اسم و إن رادف غيره فلا بدّ أن يختصّ بمعنى، و قد تجد صعوبة في وصف شعور ما و اختيار الكلمات المناسبة المعبّرة عن المكنون و المبيّنة للمقصود. و ما أكثر هذه الوضعيات في وقتنا المعاش حين تمتزج كآبة الحاضر بمرارة الواقع مع قتامة الآت.
بماذا سنصف شعورنا إن بقي لنا قدرة على الشّعور؟ المهانة، الإذلال، العجز،بل ربّما هو خليط من ذلك ممزوج بالقهر، فالقهر كلمة عربيّة لا يوجد لها مرادف دقيق في اللّغات الأخرى و يبقى القهر عربيّا أصيلا.
اجتمع إثنان، لكنّهما واحد، أحدهما نصف ألماني نصف انجليزي حفيد قتلة مائة مليون إنسان و الثّاني اشكنازي بولندي مصنّف مجرم حرب، تعانقا و ابتسما و قرّرا ببساطة تغيير مستقبل منطقة و مصير إنسان.
لم يكفهما قصف الشّجر و البشر و الحيوان و تدمير البنيان، لم يحقّق اشباعهما إمطار منطقة صغيرة من العالم قد تكون أصغر من ضاحية مدينة كبيرة من مدنهم بما يعادل أربع قنابل نوويّة كتلك الّتي ألقوها على هيروشيما، ليعلنا عن قرارهما بإطلاق قنبلة خامسة ربّما أكثر فتكا و أشدّ تدميرا تحقّق ما لم يتحقّق بالقنابل السّابقة.
ما لم يتحقّق بالقوّة النّارية المتوحّشة و أرتطم بجبل الصّمود الأسطوري لشعب الجبّارين طيلة خمسة عشر شهرا ،هل يمكنه أن يتحقّق بألاعيب السّاحر الأبيض و كاتبه البولندي ميليكوفسكي؟
قد يبلغ غرور المرء بذاته درجة قد تحوّل ذكاءه الحادّ إلى غباء مفرط و حمق و لن تجد أكثر صدقا في وصف ترامب ما قالت عنه أمّه ماري آن:" نعم إنّه أحمق لا يتمتّع بأيّ قدر من الحسّ السّليم، و لا يمتلك أيّ مهارات اجتماعيّة ،لكنّه ابني أتمنّى أن لا ينخرط في السّياسة أبدا ،سيكون كارثة".
هذا الّذي لا يتمتّع بأيّ قدر من الحسّ السّليم، التّاجر ،المقامر، المغامر، المنتفخ بجنون العظمة، المتعجرف، المتغطرس، لا يمكنه أن يشعر بما يحسّ به أيّ إنسان سليم، فكيف له أن يفهم أو يتذوّق شعور الحبّ و الانتماء؟
و كيف له و لخادمه أن يفكّّكا شفرة سرّ التحام الإنسان بأرضه و التصاقه بها كالصبّار و الزّعتر و الزيتون بل كحبّات بذور ممزوجة بالثّرى، و كيف له أن يفهم وشائج الوصل بين تلك الأرض و السّماء؟
أجابتهم تلك الجموع الّتي لم يشهد لها العالم مثيلا و هي تعود زحفا لتعانق الحطام و الّتي رسمت ملحمة صمود بالدّموع و الدّماء و لم ترفع طيلة خمسة عشر شهرا الرّايات البيضاء و لم تركع الّا لربّ الأرض و السّماء.
هذا الّذي لا يمتلك حسّا سليما أحسّ و لغرابة الصّدفة بمأساة غزّة و هو و من معه و من سبقه ،من كانوا سببا فيها، فأخرج من جعبته ما يعتبره حلّا وحيدا و هو أن يموت هؤلاء مرّتين فموتة واحدة لم تكف لدفن القضيّة.
هذا الأرعن الّذي يعتقد أنّ الكيان المزروع في قلب الأمّة هو بحجم قلم صغير مقارنة بمكتبه الكبير و هو في حاجة لأن يزداد حجما حتّى يناسب توقيعه الضّخم على قراراته!
"غزّة يمكنها أن تصبح ريفيرا الشّرق الأوسط و أتوقّع أن تكون للولايات المتّحدة ملكيّة طويلة الأمد فيها"
هكذا يمنح من لا حقّ له ملك ما لا يحقّ له،و هكذا تلوى عنق الحقيقة و تبنى السّرديات الكاذبة لتفرض بالقوّة الغاشمة.
لا يمكن التّعويل فقط على صمود الشّعب الفلسطيني فهذه القنبلة أشدّ من جميع القنابل السّابقة، و لا تكفي بيانات التنديد و الخطابات العكاظية الرّافضة، و لا بدّ من هبّة رسميّة و شعبيّة هادرة و فاعلة.
ترامب لم يكن و لن يكون اله و ميليكوفسكي لم يكن و لن يكون رسوله، و ما يكتبه و ما يوقّعه ترامب بقلمه ميليكوفسكي لم يكن و لن يكون قضاء و قدرا، واجهوا ما اعتبرته أمّه كارثة لأنّه فعلا إن لم يواجه ستستفحل الكارثة و تصبح كوارث.
و ما يجري من تسارع في العلوّ و الغلوّ، و ايغال في الظّلم و تعسّف و تسلّط و قهر قد يكون جرّا لهم الى حافة الهاوية و قد تكون لهم القاضية.