انتحار كهل أربعيني شنقا في جبل جلود، شاب يضرم النّار في جسده في القيروان، امرأة تحاول الانتحار حرقا في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، سائق تاكسي ينتحر شنقا في حيّ الرّياض بسوسة و مبلّغ عن فساد وجدوه مشنوقا في زغوان، هذه حصيلة يوم واحد تضاف الى اثنى عشر حادث انتحار اغلبها بالحرق شهدتها بلادنا خلال الأسبوع الفارط إضافة الى عشرات الحوادث المماثلة الّتي واكبناها في الأشهر الأخيرة، ظاهرة لافتة و صادمة و كارثة بكلّ ما تعنيه الكلمة، كان من الأجدى أن تشكّل لأجلها خليّة أزمة لمواجهتها و إيقاف النّزيف و البحث عن حلول، لكن عوض عن ذلك يتهرّب الجميع من المسؤولية و يتقاذفون التّهم و يستمرٌون في شحن الأجواء بالحقد و بثّ السّموم و تهيئة الظّروف الموضوعيّة المناسبة لسقوط المزيد من الضّحايا.
فهذا فريق يحمّل المسؤوليّة بالكامل إلى سلطة متسلّطة أغلقت المجال العام و خلقت حالة من الانسداد و غرقت في وحل من الفشل لتدخل البلاد في أزمة اقتصادية و اجتماعيّة غير مسبوقة تجلّت في قتل رغبة الإنسان في الحياة و ميله لإنهاء مأساته عبر الانتحار، و كأنّ هذا الفريق المعارض للسلّطة يعتبر ما يجري مشهدا احتجاجيا محضا و وليد اللّحظة و هو يكتفي بالمشاهدة أو بممارسة بعض أنواع التّضخيم و التّشهير دون أن يقدّم حلولا أو يطرح بديلا!
أمّا السّلطة فهي تتصرّف و كأنّ الأمر لا يعنيها و تستمرّ في سياسة هروبها نحو المجهول و سلوك الإنكار و الانفصام و الانفصال عن الواقع ، و في أفضل الحالات تتحدّث كعادتها عن مؤامرة تستهدفها من الخونة و الأشرار و الكائنات الفضائية!
هل يجوز لنا طرح بعض الأسئلة؟
ما هي الأعداد الحقيقيّة للمنتحرين فعليا في بلادنا ثمّ هل من الممكن كشف عدد الأشخاص ذوي الميولات الانتحاريّة؟
لماذا ينجذب هؤلاء نحو حفرة ثاناتيوس ، نحو الدّمار و العدوان و الموت؟
هل هي نوبة اكتئابيّة حادّة تصيب الأفراد و تنتقل بالعدوى كما في حالة الأمراض الخمجية المعدية؟
هل من الممكن الحديث عن بؤرة "وباء"انتحاري؟
و السّؤال الجوهري الّذي يجب أن يطرح كما طرحه ألبير كامو:" لماذا لا نفكّر في الانتحار؟" أو التّساؤل عمّا يدفع الإنسان للاستمرار في الحياة، اجابتنا على هذا السّؤال تشكّل أهمّ ما نملكه على الإطلاق و هو معنى محيانا.
لا شكّ أنّ الظّروف الاقتصادية و الاجتماعية من ضنك معيشة و فقر و جهل و تهميش و إذلال و احتقار و حالات الإحباط و مناخات الانسداد و القمع و اليأس و تفشّي منسوب العنف الافتراضي و الواقعي و زرع الكراهية و الحقد و تفتيت و تقسيم المجتمع الى شرفاء أخيار و خونة أشرار ، أسباب كان لها دور بارز في استفحال الظّاهرة ،لكنّ الأزمة أعمق من تحميل المسؤولية لسلطة الأمر الواقع الرّاهنة و هي أكبر من مجرّد اختزالها في الأبعاد السّياسية و الاقتصادية و الاجتماعية المحضة دون الخوض في أسبابها العميقة المتجذّرة.
هي أزمة وجودية، و أزمة قيميّة و أزمة أخلاقيّة بالأساس.
فكم من فرد أو مجموعة تعرّضوا لكمّ من الإحباطات و الإخفاقات و المعاناة و لأشدّ الظّروف المادّية و المعنويّة صعوبة و لم ينتحروا بل لم يفكّروا في ذلك بالمطلق و لنا في أهل غزّة عبرة لمن يريد أن يتبصّر.
هو الخواء الدّاخلي و الفراغ الوجودي الممتصّ لأيّ مغزى من الحياة، عندما تفتقر حيواتنا لأيّ معنى فستسقط حتما في اللّامعنى و العدميّة.
و عندما تختزل الحياة في بعدها الغرائزي و إشباع حاجات الفتحات البيولوجية مع أنكار حاجة الإنسان الأصيلة و الأكيدة في ايجاد معنى و هدفا يعيش من أجله فستحدث مثل هذه الكوارث و تتكرّر و معالجة عوارض المرض لا يمكن أن يجتثّه من جذوره.
نعم بوسع المرء تحمّل أيّ ظروف مهما بلغت من الصّعوبة مادام يملك هدفا في حياته يسعى إليه كما يقول نيتشه ،و نحن في حاجة لشيء ما نعيش من أجله كما ذكر فيكتور فرانكل، فلنبحث عن ذاك المعنى و سنجده و هو أقرب إلينا من حبل الوريد.
يكفينا تقاذفا بكرات اللّهب فنتيجة ذلك مزيد من الحرائق و التّدمير و لن يكون ذلك الّا دليل فشل الجميع، سلطة مجنونة عابثة فاشلة و معارضة معاقة عاجزة و كينونات هشّة تائهة تتقاذفها أمواج العبث و ينخرها الحقد و الكراهية و هي تستعدّ للاحتفال بما يسمّى بعيد الحبّ مع أنّها لمعاني الحبّ جاهلة!
لنبحث لحيواتنا عن معنى ،تلك خطوة مبدئية ضرورية لإيجاد حلّ للكارثة.