"أيوب توصّل إلى محبة الله مقابل لا شيء، جاعلًا الشيطان يخسر رهانه".
بول ريكور ( الإنسان الخطّاء)
لن ينجح ما يحدث هنا والآن سوى في تعميق الحاجة إلى الديمقراطية، بل وتحويلها إلى حاجة وجوديّة لنبقى. ولن تكون هذه المرّة تلك الدّيمقراطيّة الهشّة المرتبكة التي قادتها الأيدي المرتعشة واخترقتها الأيدي القذرة، بل ستكون ديمقراطيّة صلبه تعرف جيّدا إلى أين تذهب وما هو أفقها الرّحب.
لقد كانت الأخطاء الكبرى دوما منارات لتأسيس المعرفة وكنا نحتاج داخل بلاد فقيرة المعرفة متصحّرة الذوق والوجدان جدباء القيم بعد مرور جرّافات الاستبداد على روحها، أن نمرّ بألف خطأ وخطأ، وأن نعيش الرّوع والتّيه والخيبات حتى نصل أخيرا إلى فهمٍ مشترك لوجودنا. فهم بدأ يتشكّل تحت مطرقة العبث وغياب الرّؤية بعد الانقلاب على دستور الثورة.
وكم كنّا نحتاج أن يبلغ العبث ذروته فيتحوّل إلى جنون عام حتّى نبلغ لحظة التعقّل الكبرى تلك التي دفعت عددا لا بأس به إلى مغادرة منطقة العبث نحو منطقة آمنة لا توجد حاليّا في غير مساحة مواطنون ضدّ الانقلاب التي ضمّت نخبة من مثقفين يؤمنون إيمانا حقيقيا بصيحة الأديب عبد الرّحمان منيف: الدّيمقراطيّة أوّلا.
صيحة توَهَّمنا زمنا أنّنا نقلناها من طور الفكرة الأدبية إلى أرض الواقع قبل أن ندرك عبر التّجربة العميقة والضّروريّة وعبر معايشة الحدث الدّيمقراطي لعشر سنوات لا بدّ منها، أنّ الفكرة هنا محاصرة من نفس " أعداء الدّاخل والخارج" الذين تحدّث عنهم منيف في كتابه: الديمقراطيّة أوّلا، وأنّ " الشّيطان " هنا، لا بالمعنى الميتافيزيقي كما هو عند ريكور، وإنّما بالمعنى المجازي الذي يعني القوى الداخلية، قوّة المال والسلطة الحقيقيّة، والقوى الاقليمية، مصرّ على ربح رهانه في إفشال كلّ محاولة لأنسنة وجودنا.وحتّى مشروع البناء الدّيمقراطي القاعدي الذي يُلوَّح به طُعما لفرائس الفقر والجهل، والذي كان يمكن تقديمه بكيفيّة ديمقراطيّة مقترحا للنقاش العام، لن يسمح بتطبيقه، بل سيكون مطيّته لإعادة إنتاج ذاته المحتكرة للثّروة ولمصيرنا.
إنّ اليقظة الحاصلة بعد ذهول 25، وبعد المأزق السياسي والأخلاقي والاقتصادي المالي لمدّعي الجنّة بعد 25، تؤكّد أنّ أنسنة وجودنا لا تتحقّق إلّا بإنتاج الهواء الديمقراطيّ الذي يحرّر الرّوح والعقل، ويعيد تشكيل حضورنا العادل في الدّاخل، الحرّ في العالم، وأنّ " الشّيطان هنا قد يخسر رهانه " بلغة بول ريكور المستوحاة من سِفر أيّوب، حين نتوصّل إلى الدّيمقراطيّة " مقابل لاشيء" أي ألّا نتوصّل إليها طمعا في الخلاص الفرديّ، أو الغنيمة الفرديّة، وإنّما فعلا أخلاقيّا جماعيا محرّرا وضميرا مقاوما لقوى التوحّش ولصوص العقل والمال.
ولا يكون ذلك إلا بمراجعات حقيقية واعترافات بارتكاب الأخطاء المنتجة للشروخ الكبرى في التجربة الديمقراطية. ف"ليس الانسان ذلك الذي لا يعرف مسؤولية نفسه.. فمن الشر أن يكون الانسان حافلا بالاخطاء، ولا يريد الاعتراف بها.. ولكي يبرر اللامبالاة يلجأ الى شيء من النفور من الحقيقة" هذا ما أورده ريكور في كتابه الإنسان الخطاء.
ولأنّي أعلم بأنّ المقاومين بإضراب الجوع لا يطلبون من الدّيمقراطيّة شيئا لهم، وأنّهم يملكون صبر أيّوب، وشجاعة المثقّف، فأنا على يقين بأنّ " الشيطان سيخسر رهانه هنا " اليوم أو غدا أو بعد زمان.