قراءة ما كتبه أحد الديمقراطيين الجدد (قيادي في حزب) ردّا على قاعدي يسخر من مثقّف يدافع عن الديمقراطية، كان كفيلا بتبيّن عمق الخلل الكائن اليوم بين السياسي والمثقف، خلل يعيد إنتاج نفس التصحّر السياسي والثقافي ويمنع استنبات الأرض الديمقراطية. فالردّ كان مشاركة في السّخرية وتعاليا وعنجهية وعُجبا وبيانا لعدم الحاجة إلى ما يكتبه هذا المثقف.
عدم الحاجة إلى المثقف هو ما نلمسه لدى عدد كبير من ممارسي السياسة الجدد اليوم، فالمثقف مزعج دوما كما يقرّ ادوارد سعيد، وهو لا ينصاع بسهولة لإرادة السياسي الذي يريد قلما طيّعا لا يغادر متردّم الشاعر المنافح عن القبيلة، ذلك أنّ التصوّر القائم للعمل الحزبي عموما لا يكاد يختلف عن التصوّر القبلي حيث النصرة والعصبية والثأر، وحيث غياب المراجعات والنقد والنقد الذاتي، وهيمنة الوثوقيات واليقينيات والانفعالات والانسياقات، إرث ثقيل من تاريخ الاستبداد الطويل، وتطبّع بطبائعه يمنع السياسي " الديمقراطي " اليوم، من الإصغاء إلى المثقّف الحقيقي طبعا، والاستنارة برأيه.
في تاريخ الديكتاتوريات كان العداء واضحا للمثقف. فجوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في ألمانيا النازية ينسب إليه هذا القول الشهير: "كلّما سمعت كلمة مثقف أتحسّس مسدّسي" ولا يختلف بعض الساسة الديمقراطيين هنا، على ديمقراطيتهم التي يدّعون، عن غوبلز، فإن كانوا بلا مسدّس حقيقي، فإنّ هذا لا يمنع من كونهم يتحسّسون، ويتحسّسون كثيرا ممّا يكتب المثقّف إلى حدّ العُجب والتعالي، وهو ردّ فعل بافلوفي يدلّ على الرفض المطلق للنقد باعتباره تعرية لما يحجبه السياسي واقترابا من الحقيقة التي يصرّ على تعويمها، ورصدا للخلل الذي يكابر في عناد طفوليّ لإخفائه.
رفض الديمقراطي المُعجب بنفسه الإنصات إلى المثقّف الحقيقي وتهميش دوره يفضي حتما إلى الوقوع في قبضة " المثقف البراغماتي" وهو مثقف يسعى اليوم بحماس عجيب إلى إعادة إنتاج المنظومة القديمة ويجنّد قلمه / مسدّسه في سبيل ذلك، ذلك أنّ البعض منهم كانوا، مثل غوبلز، "أدوات" دعاية للديكتاتور، ولم يفاجئني النشاط المكثف لأقلامهم بعد سبات، فاللحظة لديهم فارقة، وهي لا ريب لحظة الانقضاض على التجربة الديمقراطية ولو كان الأمر بالاصطفاف وراء الفاشية التي تقود كامل الجوقة من بقايا المنظومة القديمة الذين لم يندمجوا في التجربة وبقايا المثقفين الحريصين ببراغماتية شديدة على مواقعهم ومصالحهم الخاصة يمينا ويسارا، وبعض "المناضلين الجدد" والديمقراطيين بعين واحدة، وممثلي المال الفاسد، وأتباع المال النفطي، وأصحاب الهشاشة الديمقراطية وفقر الدم الوطني.
"مثقفون" كثيرون يؤدّون بطريقة وبأخرى دور غوبلز بالدعاية للفاشية وللفساد، وتلميع صورتهما والترويج لهما، منتجين، في سبيل منافع شخصية، أفكارا خاطئة تعادي في جوهرها حريّة الإنسان، فنستحضر، ونحن نقرأ ما يدوّنون، مثقفين وفلاسفة كانوا حراسا للأنظمة الشمولية، ويكفي أن نذكر مارتن هيديجر وكارل شميت نصيرا النازية ، ويكفي أن نذكر أنّ هيدجر تآمر مع الحزب النازي للاستيلاء على الجامعة، ليصبح رئيسا لها.
نفس الدور الذي ادّاه مثقفون هنا بصور مختلفة، في دعم النظام البوليسي، ويعيدون نفس الأداء اليوم، وهو ما أنتج كردّ فعل ظواهر التطرّف الديني، كما أنتج التصحّر الفكري والوثوقية والانتهازية سلوكيات شائعة وراسخة، تنتعش كلّما انتعش القديم.
ليس من دور المثقف مديح الساسة، وليس من دور السياسي شراء ذمّة المثقف أو تجاهله والتعالي عليه وتهميشه.
فمن المخجل اليوم أن يهمش المثقف الحقيقي في تجربة ديمقراطية رائدة، ونترك المصير في قبضة مثقفي البذاءة والابتذال والبراغماتية، وأيضا في قبضة " الذباب الالكتروني" (كم أكره هذه العبارة) بألوانه المختلفة يشكّل الوعي المزيف ويصنع الأحقاد ويصيب بالعقم أرضا نريدها أن تخصب.
لا نحتاج إلى العُجب الديمقراطي بالذّات والابتسام ونحن ننظر إلى أنفسنا في المرآة ولا إلى الوقوع في فخّ الأفكار الخاطئة وإنما نحتاج إلى نقد التجربة نقدا جذريّا. وهو نقد لا يمكن أن ينجزه تقنيو السياسة ولا تقنيو المعرفة، الأيدي القذرة كما يسميها فريديريك نيتشه، تلك التي تضع نفسها دوما في خدمة قوى المال الطاغية، بل مثقفون حقيقيون كسروا المرآة وواجهوا المسدّسات الكاتمة للصوت لورثاء غوبلز ولم يبالوا.
ننتظر أن يجلس ساسة الديمقراطية الجديدة، إلى مثقفي الديمقراطية الجديدة لصنع التاريخ الجديد.