هو العنوان الذي صادفني على جريدة لابراس في الوقت الذي يتمّ فيه إيقاف الصحفي زياد الهاني بطريقة تبيّن حجم الحقد والتشفي ضدّ أصحاب الآراء المعارضة للنظام الحقيقي القائم. المقال في محتواه أعتبره إعلانا صريحا عن عودة صحافة البوط أو البوق التي كانت تأتمر بأوامر وكالة الاتّصال الخارجية إلى نفس المربّع بعد أن تبيّن أنّ مساحة الحريّة التي أتاحتها الديمقراطيّة أوسع من مصالحها ومحدوديّة أفقها ووظيفيّتها القذرة خدمة للسلطة، وأعلى من أحلام المتسلّقين العالية دوما.
المقال يشيد بنجاحات تحقّقت خلال عامين فقط لاستعادة مصير البلاد واستعادة مقوّمات السيادة الوطنية، على الصعيد الاقتصادي والمالي والأمني، والحقيقة أني بحثت طويلا عن هذه النجاحات، فهل استعادة المصير تمّت بالإلقاء بامرأة في السجن؟ بالإلقاء بالأصوات المعارضة في السجن؟ بترك السجن ينهش أجساد المرضى؟
أعتقد أنّ " استعادة مصير البلاد " التي يشيد بها المقال تعني تخليصها من التجربة الديمقراطية التي أتاحت مشاركة متنوعة في تجربة الحكم ودرجة من الحريّة في الاختيار أقحمت حتى بعض من "يُمنع "عليهم الحكم هنا، فأرعبت القابضين الحقيقيين على مصير العباد والبلاد ، هؤلاء الذين يعتقدون أنّ السلطة لا ينبغي أن تغادر أصابعهم التي تحرّك كلّ شيء. هكذا تكون الصحافة مجرّد تزييف للحقائق وتهجين للمفاهيم، وتصبح الكتابة فعلا كاذبا في خدمة أصحاب السلطة الحقيقيين.
فضلا عن ذلك تمارس هذه الصحافة العائدة بقوّة نفس العدوانية المعهودة ضدّ المعارضين، نفس التهم التي مازالت تشهد عليها صحافة بن علي: الفاعلون في الانقسام، زرع الكراهية العميقة للدولة، خدمة حساباتهم السياسية الضيّقة.. وانتظرت أن أجد أيضا: الصائدون في الماء العكر، ولكن يبدو أن لا مياه عكرة هنا. كلّ شيء نقيّ صاف بفضل " رجل العناية الإلهية " كما ورد حرفيا في المقال.
" رجل العناية الإلهية " هكذا يتمّ توظيف الميتافيزيقا وإقحام الدوائر الغيبية من أجل الإيهام وإعادة إنتاج الذلّ والخضوع لشعب كان بإمكان التجربة الديمقراطية أن تحرّر عقله الجماعي المركّب بكيفية عجيبة جرّاء تاريخ كامل من الإذلال ومن " طبائع الاستبداد " المهيمنة حتى أنّه صار يطلب جلّاده من جديد.
لماذا استفزّني المقال؟ لأنّي تذكّرت بطل روايتي برزخ العشّاق، الحيّ الميّت، الصحفي الذي أبى الرضوخ إلى السلطة، ولوكالة الاتّصال الخارجيّ المتحكّمة في إرادة الصحفيين، ورفض أن يكون بوق دعاية وقلم لتزيين واجهة السّلطة، وقاوم إرادة التزييف التي تسعى إلى إطالة أمد بقاء من يحكمون، فطرد خارج البلاد، ثمّ قتل.
هو مصير كلّ من يسمّي الأشياء بأسمائها. الدّولة القويّة لا تكون قويّة بقدرتها على القمع، بل الدولة القويّة تقوم على الحقّ والقانون والمؤسّسات العادلة. إنّه الدرس الفلسفي الذي لا يمكن أن نلقي به من نافذة التاريخ.
وفي تاريخ القمع الطويل الذي نحمله هنا حدبة فوق ظهورنا فيمنع سيرنا الحثيث على هذه الأرض، ظلّت الدولة " القويّة " الدولة الضارية التي تسيطر " ماكنتها " على مجتمع ضعيف ومقسّم خدمة لمصالح مجموعة محدودة ومصالح ضيقة، شأنها دوما، فإذا هي دولة ضدّ المجتمع.
نحن اليوم نعيش في ظلّ دولة ضدّ المجتمع. دولة ضدّنا. تتعامل معنا من خلال القسر والإخضاع بالقوّة والعقاب الجسدي اللّأخلاقي. دولة عنيفة وكثيرة الضجيج لأنّها ضعيفة، يظهر ضعفها في تخبّطها وعدم قدرتها على إيجاد حلول حقيقية لمعالجة أزماتها المالية، فتدور على معارضيها لاقتناصهم، واجهة زجاجيّة هشّة لإخفاء الضعف وإظهار القوّة والهيبة.
وكما سقطت بعد الثورة الواجهة البلورية المزيّنة التي أجادت صحافة وكالة الاتّصال وضعها، سيُسقط التاريخ يوما ما الواجهة الجديدة، لأنّ له عينين واسعتين ليرى الحقيقة، ولو من بعيد.