حين صدح النائب صاحب القطيع في البرلمان ب" جملته الشعرية" أغلقتُ التلفزة. فلن يكون بعد ذلك حديث. وتذكّرت مباشرة ما دوّنه شاعر الرقّة والإحساس بيرم التونسي عن تونس "مدينة الشتائم" كما سمّاها حيث يقول: "وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث، …
فقد انغمست كلّ ألسنة سكـّانها في البذاءة وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة"
والحقيقة أنّنا وبعد قرابة قرن عما دوّنه بيرم التونسي فنّان الشعب، مازال الكثير لا يراعي آداب السير والحديث، رغم الستين سنة حداثة التي ندّعي، ورغم ادّعائنا أيضا بأنّنا أبناء الثلاث آلاف سنة حضارة، بما يعنيه ذلك من مراكمة عظيمة للقيم والآداب والأخلاق التي تزداد رهافة مع التحضّر.
فالكلّ هنا يصيب الكلّ بهذه اللغة النارية ويكفي أن تصادف أنصار فلان أو أنصار فلتان وهم في سكرة انتشائهم بالمداخلات الناريّة لزعمائهم حتى تصدأ أذناك بعبارات من قبيل: مسح بها.. ومسحت به.. وكلّ يعتقد أنّ له أسبقيّة المسح الذي يعني في ما يعني التفنّن في الحطّ من شأن الآخر والعبث بكرامته والإيغال في تحقيره.
إنّنا لم نغادر مربّع الهجاء بعد.
والأدهى أن تصادف من الأنصار ومن اليمين واليسار ومن المثقفين حاملي الأسفار من يمجّد نائبة متفاخرا بأنّها "عرعور" (الكلمة تستعمل في سياق المديح) متباهيا بقدرتها على سلخ فلان سلخا. عدوّه اللّدود. موضّحا: والله بردتلي على قلبي. درجة هائلة من الساديّة ومن النظرة المشوّهة للمرأة الناتجة عن فهم مشوّه للحرية والحداثة،
وفات هؤلاء أنّ عرعور في العربية وفي لسان العرب لابن منظور تعني الجرب، كما تعني سوء الخلق. يقال: عرّت الإبل فهي معرورة أي أصابتها قروح مثل القوباء (مرض جلدي) ودواء البعير العرّ في مجتمع البداوة قتله. ويقال لأيضا: ركب عرعره إذا ساءت خلقه. أمّا عرّة النساء فهي فضيحتهنّ وعرّة الرجال: شرّهم.
انتروبولوجيا اللغة يؤكّد أنّ العرعرة سلوك ما قبل مدني، وما قبل حداثي، يحيلنا على أزمنة الجرب حين كانت تصاب به البعير والبشر وعلى أزمنة الغزو والحرب حين كانت المرأة تحتاج لسانها للدفاع عن نفسها. وهو سلوك لا يليق في زمن ديمقراطيّ يتيح حريّة الكلمة القائمة على قوة الحجة، ويوفّر الحريّة لأعدائه قبل أصدقائه.
وبصفتي المهنية، يحدث أن أجد نفسي في مواجهة هذا السلوك مع تلميذات توارثنه أو وجدن في نماذج شائعة مثالا للاحتذاء وللانتقام من ذكورة يعادينها، فتوجّه الفتاة سيلا من القذائف الكلامية لزميلها الذي يكتفي بالصمت في كثير من الأحيان. فهم آخر مشوّه للحريّة والمساواة.
لغة العرعرة الاجتماعية والسياسية، هي لغة ما قبل الزمن الديمقراطي الذي مازال يضع يده على خدّه منتظرا قدوم لغته. يحتاج ذلك ديمقراطيين يتشرّبون ماء الديمقراطية، وينتجون لغة خاصّة بهذا الزّمان. لغة جذّابة وقويّة وساحرة. ومن مظاهر خذلاننا ألّا ينتجها المثقف الذي يعيش سكرة الانتشاء بلغة الأحقاد التي تنزل على قلبه بردا وسلاما.
هذه اللغة خطرها في أنّها تكشف مأزقنا الأنطولوجي واهتراء نسيجنا الاجتماعي والثقافي. نعيش الحرب دون رصاص. ويبدو أنّها حرب قائمة منذ زمن طويل. وفُرقتنا ليست داخل البرلمان فحسب إنها في كل مكان. بل هي بين المرء ونفسه أحيانا.