1 ـ في زمن العنف اللّايت، العنف المشهدي الاستعراضي، العنف السينمائي الذي يتمّ تصويره بالهاتف على المباشر ويُعرض على الشاشات في الآن فيثير "أنصار المرأة" وذوي القلوب الرّهيفة والواقفين على حافة المواقف المائلين في كلّ لحظة إلى الطّرف الأقرب للانتصار والهيمنة، في زمن العنف الإشهاري الدّعائي الذي يمارسه صاعدو الصدفة، تذكّرت العنف الثقيل، العنف السريّ المكتوم، العنف الدموي القاصم للظّهر وللقلب، العنف الذي لا يصل أحدا، وإن وصل فهي اللامبالاة، أو نصرة المعنِّف ضدّ المعنَّف في زمن الخوف الطاغي وزمن الجبن والولاءات.
تذكّرت الهاتف يأتي سرّا وبلا هوية والصوت يأتي من بعيد، من آخر القاع، ليقول: إن سلّمتم ملفّ الفساد سيحدث لأبنائكم كذا وكذا.. تذكّرت الحصار والعنف المعنويّ والحملة المسعورة على المرأة لأنّها امرأة، تذكّرت العزلة، وتذكّرت صمت الصّارخين اليوم نُصرة للمرأة" المعنّفة".الصمت الجبان. تذكّرت المشاركين من " المناضلين " في الحملة سرّا. تذكّرت كلّ هذا وقلت: نحن في زمن جديد. غنمنا على الأقل أن صار الكلّ يتكلّم حتى الصّامتين.. وغنمنا أن صار العنف عنفا مسرحيّا يعرض على المباشر من البرلمان.. والفرجة ممتعة ومضمونة ، وردود الفعل البافلوفية أيضا، تلك التي تأتي غرائزيّا ودون تفكير: منبّه فاستجابة. يا لحظّنا!
2ـ في زمن المظاهرات اللّايت، المظاهرات المشهديّة الاستعراضيّة ، مظاهرات النيوليبيراليّة التي ترتدي الباروكات الحمراء والصّفراء والثياب الملوّنة وأنف المهرّج والكانيش المدلّل وأحمر الشّفاه المسجّل، في عهد البوليس الوسيم واللطيف والمنضبط حتّى حين يُلقى الدّهن في وجهه من قبل حسناء، في زمن الماتراك التي تداعب الظهر… تذكّرت ضربة الماتراك القاصمة للظهر، والبوليس الغرائزي الحاقد، والبنات يختفين في البيوت من الملاحقات، تذكّرت الدّماء على الأرصفة تتحوّل إلى شقائق نعمان، والأجساد تدفن ليلا في كنف الصّمت الرهيب.
تذكّرت وقلت: نحن في زمن جديد. غنمنا أن صار الكلّ قادرا على أن يدافع عن قضيّته دون خسارات أو أوجاع كبرى أو قصم للظهر( رغم وقوعها أحيانا ) . غنمنا أن صارت المظاهرات جزءا من الفرجة في زمن الفرجة. وردود الفعل البافلوفية وغير البافلوفية مضمونة. وفي خضم هذه الحريات الواسعة، سيظلّ الكلّ يوظّفها من أجل غاية ما.
هذا التذكّر ليس نوستالجيا بقدر ما هو رغبة في رصد التحوّل الذي نعيش. فلعلّنا دخلنا فعليا بفضل الثورة والتجربة الديمقراطية زمن الحريّات الليبيراليه، وهو فضل ينكره صامتو الماضي صارخو الحاضر، وستكون لهذه الحرية تجليات كثيرة وأشكال تعبيرية مختلفة بعضها صادم كالتي رأينا البارحة. إنّها التعبيرات الجديدة لفئات اجتماعية مختلفة قد لا يكون لها نفس الانتماء الطبقي والثقافي ولكنّها قد يجمع بينها الشعور بالاستلاب والاغتراب في الزمان والمكان.
ويظلّ السّؤال: على من تدافع هذه الحريّة الليبيرالية؟ عن أيّ قضيّة تدافع ؟ وعن أيّة عدالة؟ وعن أيّ مضمون؟ وماذا فعلنا للفئات الضعيفة لحمايتها من انجرافات ليبيرالية معولمة ومن قبضة الشبكات المحلية والأخرى العابرة للقارات المروّجة لكلّ المنتوجات الربحيّة حتّى القاتلة منها؟ هل سنكتفي بالسّجن؟ وهل ستظلّ القوانين المشرّعة في خدمة قوى المال ومالكي السلطة الفعلية ضدّ مسلوبي المال والكرامة؟
وماذا فعلنا للمتهربين من الضرائب والمهرّبين والهاربين مع الأموال المنهوبة؟ ماذا فعلنا لمن مارسوا العنف القاتل المذكورين أعلاه؟
هل سنظلّ في انتظار فرجة جديدة لمعركة جديدة تبثّ على المباشر لن تعني سوى هواة الفرجة وهواة الصراخ المجاني اليوم؟
المسألة معقّدة ومركّبة.. إنّها حضورنا في العالم داخل هذه اللبيرالية الجديدة المعولمة التي تنتج معا أصحاب اللحي الفاتحين للجنّة، والمزطولين الفاتحين لباب السعادة الأرضيّة، المفقودة في قلوبهم الحزينة.
كما تنتج الفاشيات الجديدة بكلّ استعراضها المشهدي المجنون.
حضور نحتاج فيه إلى عقل سياسيّ وثقافي قادر على إنتاج تصوّرات خاصّة بنا، قادرة على توفير بعض السعادة الواقعية، سعادة العدالة والكرامة، لا السعادة الوهمية في وجودنا الحزين.