في النصّ الذي كتبه هوميروس ( المشكوك في وجوده ) عن نزول أوديسيوس إلى مملكة الجحيم، صوّر بطله يلتقي رفيقه الشهير في حرب طروادة أشيل ويبادره قائلا: يا أشيل ، لم يسبق لأحد أن كان أو سيكون أكثر سعادة منك. عندما كنتَ على قيدَ الحياة ، كرّمناك كإله ، والآن ها أنت تحكم جميع الأموات.. فلا تشكو يا أشيل ”. فردّ عليه أشيل: : "لا تحاول مواساتي أوليسيوس اللامع! أفضّل أن أكون حرّاثا.. على أن آمُر موتَى وأحكمَهم ".
لقد فضّل أشيل أن يكون حرّاثا على أن يكون حاكما على الموتى في الجحيم، يأمرهم فيصمتون. يحدّثهم فيصمتون. يقرّعهم فيصمتون. يخوّنهم فيصمتون ويباركون. جثث لا تأبه لشيء ولا يحرّكها شيء. أن تكون ميّتا أمام الحاكم هو أن تذعن لكلّ املاءاته دون تفكير وأن تبارك كلّ أهوائه، وهو أمر لا يُغوي أبطال الحكم الحقيقيين.
فالبطل الحقيقي يريد منافسا حيّا شريفا وشرسا يواجهه بكلّ الفضائل الأخلاقيّة وبكلّ معايير العقل والأفكار والسياسة لا بمنطق التخوين والتكفير والتحقير والإطاحة بكلّ شيء. يحتاج أحياء يوجّهون إليه ضربات مواطنيّة حتّى لا يصير آكل جثث. ويحتاج مواطنين يحتجّون ويغنون ويلهبون السّاحات دون أن يعدّهم كائنات حقيرة، ويحتاج عقولا حيّة تفكّر معا وتستنبط الحلول لمعضلات الموت الاقتصادي والاجتماعي والفكريّ. لا شيء يصنع "البطولة السياسية" غير خوض المعارك المؤسّسة بعقل سياسيّ ديمقراطيّ متحرّر من نزعات التسلّط والقهر والاحتكار.
وها نحن نعيش بعد إطلاق العنان للإسفاف والضحالة وللرداءة موتا جديدا لعقل خلناه قد بدأ يتحرّر من وهنه القديم في مناخات الحريّة وعبر معارك الديمقراطيّة الطويلة وإن لم تكن دوما معارك مؤسِّسة، وها نحن اليوم نعيش الانتكاسة وراء الانتكاسة ونحن نعاين صورة القيصر تعلّق على الأسوار في الوقت الذي تتوسّل فيه البلاد الأموال من الأشقّاء الأعداء حتى لا تنهار.
دعم للبطل المنقذ الذي يريد أن يحكم فقط أن يحكم على الطريقة السيسيّة أو الدّيغوليّة أو الكوريّة المهم أن يحكم بعد التخلّص من كلّ الخونة والمتآمرين والعملاء. وهم تقريبا نصف الشّعب والإلقاء بهم في الجحيم وإدخال النصف الثاني إلى الجنّة والتربّع بين الصفّين في منزلة بين المنزلتين لحكم السعداء والأشقياء الأموات والأحياء.
ربّما لهذا السبب لم تنتج هذه الأرض ملاحم ولا أشيلا ولا أوديسا. فالمعارك هنا لا تخاض وفق قيم وفضائل متّفق عليها . وإنّما هي عجرفة لغويّة وتخفّ وراء المعاني الكبرى التي نتبيّن خواءها ما إن تطلّ إحدى الرؤوس القديمة المطبّلة التي تحوّل المعركة إلى مهزلة.
وندرك آنذاك أنّنا أمام حفلة تنكريّة وأنّ " الأبطال " الحقيقيين قد بدؤوا يخرجون إلى ساحة الرّقص الواحد بعد الآخر. آه أنتم إذن أبطال 25؟ الآن نفهم سعادتكم. سعادة من يريد أن يحكم أمواتا، على أن يكون حرّاثا.
ولكنّكم غافلون: لقد امتلأت الأثلام بالبذور وهطلت السّماء والبطولة وحدها لمن يحكم الأحيا