هذا عالم تسكنه السّرديّات كما تسكنه الشّياطين والأرواح الشرّيرة.. توسوس هنا وتفتن هناك فنسير نحو الغيّ الفكريّ والنّفسيّ.. سرديّات العبث تحوّل وجودنا إلى لعبة سخيفة.
سرديّات العبث يكتبها كثيرون: دول تتوهّم العظمة وقوى تملك المال وساسة نرجسيّون وإعلام أخرق ومثقّفون مزيّفون ودعاة ووعّاظ يتكلّمون باسم اللّه وأنصاف جهلة يقرؤون أنصاف كتب فيتحوّلون إلى أنصاف كتّاب.
في سرديّات العبث كثير من الكذب والمخاتلة عبر التّخييل والبناء الدّرامي والشّخصيّة المتجاوزة والسّارد المتحايل الذّي يحوّل المادّة الواقعيّة القابلة لكلّ احتمالات القراءة إلى حكاية متينة السّبك بلا احتمالات ولا ثقوب للتّاويل المتعدّد ويحوّل الخدع في المخيال الجماعي حقيقة والوهم واقعا.
ومن السّرديّات الكبرى المخاتلة حول نهاية التّاريخ وصدام الحضارات والإسلام الدّمويّ في عمقه والعولمة التي تصنع الفردوس العالمي إلى سرديّات صغرى يصنعها إعلام صغير حول أحزاب من ورق تحوّلت بمعجزة إلى سفينة نوح لإنقاذ البلاد.. لكنّها تغرق الآن رويدا في محيط الأمواج الكاسرة.. وحول " حداثة " مزعومة و" وظلاميون " يفتكون بها ووحوش يهدّدون الأمن وحريّة يجب أن تصمت ثانية من أجل الأمن والأمان..
بين هذا وذاك ظللنا كقوس مشدود متوتّر متأهّب للانقضاض كلّ آونة.
السّرديّات الكبرى تصنعها عقول كبيرة وأموال كبرى.. رأس مال يبحث عن البقاء.. فتأتي متقنة ميتنة الحبكة قويّة البنية عميقة التّخييل فتسحر وتفتن وتأسر الألباب وتخاتل وتغالط وتحجب الحقائق وتصنع الأساطير الجديدة للدّول والحضارات فتغيّر التّاريخ وتصنعه وفق مشيئتها وتتركنا متفرّجين مدهوشين أمام نصّ لا نتحكّم في صياغته..
السّرديّات الصّغرى تصنعها عقول صغيرة بنفوس صغيرة بأموال صغيرة .. يصنعها ساسة صغار طموحاتهم صغيرة و إعلاميون صغار و " خبراء " صغار فتأتي مشوّهة كصفحة فايسبوكيّة مشبوهة أو مضحكة كمسرحيّة هزليّة رديئة أو مثيرة للشّفقة كسينما فاشلة أو مثيرة للقرف كبلاتو تلفزي بائس..
سرديّات العبث عبثت بالإنسان وبعقله وروحه وتركته ملقى على رصيف الحياة يتوسّل المعنى والحقيقة تحت حائط الوهم..
هي سرديّات للعبث ومن أجله. ومن عبثيّات السّرد تصنع هندسة الخراب في المدن والعقول والأرواح. تفشل الأفكار الكبرى والأحلام الكبرى والمعاني الكبرى والأوطان الكبرى وتضع ألغاما في الطّريق وقنابل وأحزمة ناسفة فنصل نهايات الطّريق مهدوري الإنسانيّة منهكين ممزّقين نبحث في الشّتات عن شظايا لنا نلملمها لنصنع شيئا ما..
إنّها عبث غايته قتل الآخر واغتياله معنويّا قبل أن يصل إلى حلمه اليوميّ ويعيش فكرته المتوهّجة..
ولكن
العبث بهذا المتخيّل السّرديّ الذّي يعبث بالعقول والأرواح هو لعبتنا الجادّة عبر كتابة ذكيّة تستدرج المتلقّي إلى معارك ذهنيّة يخوضها مع طقوس العبث التّي تتحكّم في حياتنا وترسم المصير.
العبث بسرديّات العبث يعني أن تفكّر وتخاصم فكريّا عدوّا يتمترس خلف السرديّة وتضحك منه وهو يفشل في تحقيق غايته في اغتيالك..
يعني أن تتجرّأ على التّفكير وسط سرديّات تصنع الخرافي واللّامعقول.. تصنع الإنسان المهدور فينا..