حين نبّهت تلميذتي إلى ضرورة التحدّث بالعربية في الفصل بما أنّها حصّة أدب عربي تعثّرت وتلعثمت وتلكّأت وتعطّلت لغة الكلام وظلّت تغمغم وتتمتم فتدخّلت صديقتها لإنقاذها وهمست: مدام ما بقى يحكي بالعربية كان حامد الكزدغلي.
ـ من؟
أجابت بخجل تغطّيه ضحكة:
ـ حامد الكزدغلي في نسيبتي العزيزة إلّي يقول: لا داعي لركوب البرداعي
حين عدت اشتكيت همي لابني. رويت له الأمر. فصمت. صمت عميقا ثمّ رفع رأسه وقال بلهجة مسرحية:
ـ أجل يا أمي. ما بقى يحكي بالعربية كان انت.. وحامد الكزدغلي.
أنا بعد صمت أيضا.. وصدمة:
ـ طيّب سيكون أفضل لو أذهب لأعدّ النجوم عند بحيرة تانا في أثيوبيا.
وحين قدّمت مداخلتي في ندوة سوسيولوجيا الكاتب في معرض تونس الدولي للكتاب حرصت، كما حرص رفيقي، على أن تكون مداخلتي بالعربية رغم هيمنة الدارجة في تقديم الندوة وفي النقاش، وهو ما يجعلك تشعر بأنّك قديم، قديم إلى درجة أنّك تستحضر صورة حامد الكزدغلي، كشبح مخيف ومرعب، فتحرص على أن تتكلّم بعربية سهلة وعفويّة وعصريّة وعذبة حتى تجد هوى في قلوب من يصغون إليك، وهم شباب كالورد اجتاحتهم الدارجة حتى تبنوها لغة للتواصل والكتابة، وتحرص أيضا على أن توضّح أنّه لا مشكل لديك مع الدارجة، وأنّك تحب شعريّتها، وتهوى نصوصها وأغانيها، ولكنّ العربية تظلّ الأمّ الكبيرة.
من صنع حامد الكزدغلي وربطه بالعربية ليجعلها مسخرة الشباب هو من صنع رواج الدارجة وأجراها على كلّ لسان حتى بات الجميع يكتبون نصوصا متشابهة بأسلوب واحد تقريبا وصور مكرّرة وحتى باتت الأحزاب نفسها تكتب دعواتها بالعامية مبرهنة على انخراطها في " المشروع " ( من يصنعه؟ )، وهو ما صنع الالتباس الحاصل في تصوّرنا لذاتنا ولحضورنا ويدفع بشوفينية نحو عيش تونسي.. اكتب تونسي..
دفعا غير عادي يتفاقم بالظهور المتزايد لمؤلفات بالعاميّة وترجمات من العربية إلى العامية ( نعم )مقابل التخلّي تدريجيّا عن لغة متهمة بأنّها متأخّرة، وبأنّها لغة المحتلّ العربي. أيضا. وهو ما يروّج له بعض مثقفينا. أيضا.
حامد الكزدغلي حاضر في مخيّلة الصغار ينفّرهم من العربيّة. و"غرفة اللغة التونسية " ( العبارة للإعلامي الصديق الحبيب بوعجيلة )حاضرة في عالمهم يوميّا تحتلّ مواقع التواصل وتستعمل العاميّة لغة للدعاية موهمة بأنّ للتونسي لغة واحدة يفهمها وينتمي إليها هي الدارجة.
مطلب شعبيّ ملحّ؟ مشروع لإرضاء وكلاء محليين؟ مواجهة لأحزاب ذات بعد عربي إسلامي؟( الأحزاب الإسلامية نفسها انخرطت في الدعاية باللهجة الدارجة من باب التونسة والتقرب من التونسيين ) غطاء لغويّ لواقع اقتصاديّ مفروض؟ ولبرنامج ثقافي مستقبلي؟ وهل الدارجة قادرة على أن تكون لغة العلم والثقافة والإبداع؟ لغة التفكير والتحليل؟ لغة الحضارة؟ وماذا نفعل في اللهجات المختلفة؟ إن كنا قد ضعنا بين ضاد وظاء فماذا سنفعل بين ادخل وخش وزوز؟ وما جدوى إحداث هذا الشرخ العربي في زمن موجات جديدة من ثورات عربية تستدعي أن نتقارب على الأقل مغاربيا لأنّ الحلّ يكمن هناك.
أنا التي تعطي قيمة كبيرة للكلمة، الكلمة عندي تحيي وتقتل، تخفي وتجلي، أشعر أنّ هناك برنامجا لغويّا لهذا الوطن، يتوازى مع برنامج سياسي واقتصادي ، وآخر مجتمعي، هذه بداياته.
سأخشى يوما يأتي نكتب فيه التالي في البند الأول للدستور: تونس بلاد لوغتها الدارجة التونسية ( مع الواو في لغتها).