يبدو أنّنا نصعد ونهبط دون أن ندرك الصواب. أترانا سنحتاج الهبوط العنيف وأن يرتطم رأسنا بآخر صخرة في القرار حتى ندرك أنّ "هنا بئر"؟ وأنّ للبئر فم مفتوحة لابتلاع الجميع المنشغلين بابتلاع بعضهم البعض؟ يبدو أن البعض نسي أمورا كثيرة في خضمّ الحرب المفتوحة نسي رمزية النتائج الانتخابية الأخيرة وتقلّص الثقة في الأحزاب وبداية موت النخبة القديمة والعقاب الصامت للشعب في كل موعد انتخابي وصبره الذي سينفد على محترفي سياسة يحكمهم المزاج واللّاعقلانية والانفعالات الحاقدة والغرائزية.
كثيرا ما أفكّر كم أنّ هذا الشّعب صبور وإلا ما تحمّل كلّ هذا التلاعب الطفولي وغير المسؤول بمصيره وأفكّر أيضا أنّ عقابه القادم سيكون أكبر وهو يعاين كلّ هذا العبث وأنّ عقابه قد ينسف ما أُنجِز حتى الآن، كأن يسلّط العقاب على الأحزاب المنسوبة إلى الثورة، أو كأن يقوم بتصويت انتقامي من نفسه أوّلا، كأن يكفر بالنظام البرلماني ويكفر ببعض "الرموز" المتهاوية وبالمفاوضات والحوار والديمقراطية برمّتها، كأن ينسى كلّ "فضائل" الحرية فيميل إلى الفاشية التي تفتح فمها للقادمين.
مع شعب مزاجي بدوره وقلق يكون الصعود إلى الهاوية عنيفا أيضا وغير متوقّع. من مِن الأحزاب الآن قادر على ضمان حصوله في الانتخابات القادمة على نفس النسبة أو حتى أقلّ قليلا؟ بل قد يؤول الأمر إلى الموت السريري لبعضها كما حدث لأحزاب سابقة.
وقد يتحوّل بعضها إلى جثث هامدة. حكم التاريخ حين تصبح الكراهية أقوى من القدرة على التعايش، وحين تصبح الشعارات الكبيرة غطاء لخطايا، وحين لا تملك الأحزاب مفاتيح المستقبل، فتظلّ مشغولة بركام الماضي، وترى في حربها ضدّ ضديدها كنه وجودها.
انتظروا الصرخة القادمة: سئمناكم.
وكلّ الدعوات إلى التصبّر ستكون مستحيلة لدى مواطن مرهق باليوميّ يعيش رعب الوجود في أكله وصحّته ونقله وتعليمه ويتعثّر يوميّا بالحقائق الصادمة ويتسمّم بالإشاعات الهادمة والأراجيف المخرّبة، ويلعق الخيبة المرّة بعد الخيبة، ويعلن القتل اليومي لرموزه بعد أن يئس من الصعود نحو باب الهاوية.
وسط الموت الرمزي لنخب عاجزة، ها نحن نعيش بلا عقل سياسيّ، ولولا بعض المبادرات المتعقّلة لشخصيات وطنية عاقلة من خارج الفاعلين الرسميين كسرت النسق المألوف والتقليدي للفعل السياسي لكانت العتمة، وهي في أغلبها محاولات إنقاذ نخبة تصرّ على موتها، ولو كانت تريد الحياة لكان لها من الحياء ما يسمح بفعل ما لم تفعله طوال حياتها وهو عدم تحقيق الخيبة فيها.
ربما الأمل أن تلتقي هذه الشخصيات العاقلة مع كفاءات وطنية عاقلة أيضا من أجل "عقل وطني سياسي" يصنع تصورات القادم. أفق لا بدّ منه حتى لا يلتهم اليأس الجميع وحتى نرفع الأنقاض عن أنفسنا. دون ذلك سنغرق في الاتّهام والاتّهام المضاد، دون وصول للحقيقة كاملة التي لا تعنينا في الحقيقة، وبالإمكان الاحتفاظ بها، وسنردّد مع محمود رويش في فضّة موته: كم سنة سنبقى في قاع هاوية؟