حين تصبح علاقة " المثقّف " باللّحظات المفصليّة في تاريخ الشّعوب رهينة الرّبح والخسارة ومرتبطة بحجم الغنيمة التي فقدها أو نالها من وراء ما " باعه " من خطاب ومواقف في سوق النّفعيّة والإيديولوجيا يتعطّب آنذاك تفكيره ليصبح كلامه نفثا لأحقاد سوداء وتصعيدا لأوجاع مكتومة وآهات حارقة سبّبتها له " البرويطة " التّاريخيّة التّي هزّت أنفسهم ورجّتها زمنا فأفقدت البعض مواقعه والبعض الآخر نفوذه وما حازه من مال وجاه عبر الولاء والمناشدة والكتابة المزيّفة للتّاريخ. ويبدو أنّ " البرويطة " على بساطتها استطاعت أن تحدث جروحا عميقة لدى الفاقدين لمواقع كانت حكرا عليهم وأتباعهم وأنصارهم ومن شابههم لذلك كان هاجسهم طوال السّنوات الخمس لما بعد البرويطة هو استرداد مواقعهم عبر سرديّة قامت على التّشكيك في صاحب البرويطة وتحطيم رمزيّته والبكاء على أمجاد تليدة وعلى صانع تغيير فرّ ما إن اهتزّت البلاد بعد استشهاد الشّاب البسيط الذّي حوّله المثقّفون الحقيقيون إلى طائر فينيق ورمز تاريخيّ.
عقدة البرويطة تتجلّى أيضا من خلال ما تدّعيه " خبيرة عسكريّة " من كون أنّه يقع الإعداد لبوعزيزي ثان في الجنوب من أجل إحداث الفوضى وإشعال النّار.
الوطن ظلّ دوما ضحيّة هذا الصّنف من " المثقّفين " و" السّياسيين " والخبراء القابلين للبيع والشّراء والذّين يحكمهم منطق الغنيمة وحده. ولم يجد عددا كافيا من المثقّفين والصّادقين القادرين على دفع حركة " البرويطة إلى حيث ينبغي لها أن تسير، إلى أبعد أفق هناك حيث العدالة الاجتماعيّة وكرامة الإنسان هي الهدف المشترك.
ربّما لو كان لدينا مبدعون أكثر خيالا وحريّة لصارت" ثورة البرويطة " التّي يلعنها البعض الآن ويوغل في تحقيرها مصدر إلهام: نحت ورسم وشعر وسينما ومسرح .. فتصبح الفكرة التي صارت لدى البعض " مؤامرة " خارجيّة ووهما وكذبة حقيقة أسطورة تونسيّة طافحة بالرّموز وبالرّوح الملحميّة التي تصوّر صراع الإنسان من أجل الحريّة والكرامة.
ولكن من المفارقات أيضا أن يصبح منطق الغنيمة يحكم أعداء " البرويطة " وأصحابها معا. حكما ومعارضة. الكلّ يبحث عن التّموقع وبكلّ السّبل. سحر السّلطة وسكر الكرسي وسرّ النّفوذ يدفع حتّى أصحاب ثورة البرويطة وأصدقائها في البداية إلى الانقلاب ضدّها والتّضحية بها.
لو كان فرويد حيّا لأضاف إلى عقدة أوديب والكترا عقدة " البرويطة " التي تبدو اختصاصا متعلّقا بالنّفسيّة التّونسيّة المهوسة بتحقيق الغايات الصّغرى والغنائم الرّخيصة ولو أدّى الأمر إلى التّفريط في الأفكار الكبرى والمشاريع التّاريخيّة التي يفترض أن يكون المثقّف والسّياسيّ المناضل حامل شعلتها.
وسنروي لأحفادنا يوما كيف أنّ شابا طيّبا صاحب برويطة خضار أحدث الرجّة فاهتزّ الوطن وبدأت الملحمة لكنّ بعض " مثقّفينا " المصابين بعقدة البرويطة حوّلوا الملحمة إلى مزيج من تراجيديا وكوميديا للضّحك والبكاء معا.