ليست المشكلة نهضاويّة نهضاويّة كما صرخ أحد القابضين على إعلام المغالطات ومنع التّفكير. المشكلة أبعد بكثير. إنّها أزمة أخلاقيّة سياسيّة جماعيّة عميقة وكلّما حفرنا في القاع امتدّ عمقها. ومازلت أذكر الحملات المشنِّعة بالتّعويضات وما رافقها من ترويج للإشاعات عن مليارات تمّ قبضها، وحجم الكراهية ضدّ ضحايا منظومة الاستبداد وتحويلهم إلى إرهابيين.
ومازلت أذكر التشنيع بجماعة العفو التشريعي في منابر إعلامية تمارس التلاعب اليوميّ بالعقول. مازلت وبحزن بالغ أذكر النّذالة التي واجه بها جزء من مجتمع فاقد للبوصلة الإنسانيّة من سّجنوا وفصلوا من أعمالهم بسبب انتماءاتهم السياسيّة. وأعتقد أنّنا ضيّعنا هنا الدّرس الأكبر الذي يحتاجه كلّ مجتمع مريض باللّامبالاة والأنانيّة والجشع.
درس العدالة الانتقاليّة بعد أن تمّ تعطيلها بكلّ الطّرق وسط تضارب المصالح ومن قبل ساسة رفعوا شعار مقاومة الفساد وتورّطوا فيه. إنّه الدّرس الذي تحتاجه المجتمعات التي تعجز، بعد أن تشرّبت كلّ أدواء الاستبداد، عن الخلاص.
لقد ظلّ الجرح مفتوحا ولم نمرّ بتجربة عدالة تعيد للإنسان المُهان هنا بعض إنسانيّته، وتُعلّم الأجيال كيف نتجنّب تحقير الآخر وتهميشه وإقصاءه. لم يحدث البُرء بعد أن تولّى أعداء العدالة وأصحاب مصالحهم نكأ الجرح كلّ مرّة ليصير أعمق. وحتّى بعض أنصارها خذلوها وأهمّهم حزب الضّحايا الحاكم. لقد كان الفشل بليغا إلى حدّ النقمة التي رأيتها مرّات في عيون الضّحايا. إنّ الفشل السياسي لم يترك آثاره الاقتصاديّة فحسب، بل ترك أثره العميق في "الرّوح التونسيّة " المفتّتة من أثر الخيبات وهيمنة اللّامعنى.
كأستاذة اعتادت أن تدرّس القيم وتحاول أن تجسّمها في قسمها أشعر بالهزيمة وبالخجل. في فضائي الصّغير كنت أحاول دوما هذه العدالة. أذكر أني منَعت مرّة تلميذا من الخروج قبل الاعتذار من زميلته التي عيّرها حتّى أبكاها بحذائها وبانتمائها إلى جهة مفقّرة في ولاية داخليّة.
ومازلت أذكر، وفي منطقة داخليّة أيضا، أنّي أوقفت سير مداولات مجلس قسم بعد أن تبيّن لي أنّ تلميذا من أبناء عائلة متنفّذة قد تضاعف معدّله فجأة من 6 إلى 12 وأنّ زميله العامل في مغازة ظلّ معدّله بين ثلاثيتين 9 رغم أنّ حضور الثاني منتظم. حينئذ ناداني الناظر، وخفية قال لي إنّي أسير ضدّ التيّار الذي عليّ أن أسايره.
دروسنا الصّغيرة الصّغيرة، نحن الممحونون بالمعاني الكبرى، يجرفها نهر اللاعدالة الجارف، نهر الكِبر النابع من فجاج التاريخ الموحش حيث تحقير الإنسان المختلف طبقة وانتماء ولونا وجنسا، وحيث الّرغبة في الإلغاء. كلّ هذا يجعلني أسأل عن درس العدالة هنا داخل مجتمع يتشرّب دروسه اليوميّة من شبه إعلاميين يحرّكهم المال والمصالح يؤجّجون غرائزه ويثيرون لديه ردودا بافلوفيّة تنزل به إلى القاع. ولا يجد المهمّشون هنا، الحضن الاجتماعيّ القادر على احتوائهم، فيتحوّلون تدريجيّا إلى ظلال لذواتهم. حارقين ومحترقين.
والآن، ورأس السّلطة يستعدّ لإلغاء دستور الثورة، ننتظر بلوغ المأساة الذروة. إنّها المأساة التي لا بدّ من الصّعود إليها حتّى نرى الصّواب من خلالها.