هكذا قالت التعليمة الأولى في فجر الضّمير في تاريخ البشريّة. أقصى ما نفعله لأحد هو ألا نبكيه. إنّه التجسيد الفعليّ والواقعيّ لما يسمّى الضمير. ألّا نُبكيه يعني ألّا نؤذيه، ألّا ننتهك كرامته، ألّا نقتلع حريّته، ألّا نفتكّ أرضه، ألّا نأسر جسده، ألّا نعذّب عائلته، ألا نشوّه روحه، ألّا نذلّه، ألّا نجوّعه.
ومع أنّ هذا المبدأ السلوكي: لم أتسبّب في بكاء أحد، ظهر منذ الحضارات الأولى على الأرض، فإنّ تاريخ البشريّة ظلّ تاريخ آلام وانتهاكات وانتقام وتشفّ. تاريخ إبكاء الآخر قهرا. فالضمير العادل الذي تشكّل ذات حضارات عبر تراكم قوانين نتجت عن لحظات وعي كبرى بالإنسان مافتئ يتضاءل حتّى صار في أيّامنا هذه خيالا أمام آلة الجنون الغربي الصّهيو-أمريكي الماحقة، وأمام آلة الاستبداد القاهرة، حتى يكاد ينعدم، وإلا فما معنى مثلا أن يعيش أهل غزّة المجاعة وألفا شاحنة تنتظر عند معبر رفح دون حركة؟ وما معنى أيضا أن يُعتقل الناس هنا بسبب آرائهم وأفكارهم ويلقى بهم في الزنازين دون إدانة واضحة ؟
لم أتسبّب في بكاء أحد / لقد تسبّبت في بكاء الجميع، وأنا سعيد بذلك.
إنّها العودة إلى ماقبل تشكّل الضمير، إلى ما قبل ظهور فكرة العدالة. عودة إلى البدائيّة الغرائزية الشريرة فألّا تُبكي أحدا هو ذروة الإنسانيّة. أن تُبكي الآخر جوعا وبردا وخوفا هو ذروة الانحطاط. اختطاف الحريّة والكرامة والوجود هو أعلى أسباب البكاء. استعادتها هو الإنسانية.
المعضلة أنّ السعادة الفرديّة تصبح مستحيلة. فكلّ أسباب السّعادة التي تتوفّر لي لن تقدر على أن تجعلني سعيدة في سياق الموت المعمّم، في سياق إبكاء الآخر، في هذا السياق الفرديّ الأنانيّ القاتل. إنّه اختلال يوميّ للوجود.
تقول تعليمة أخرى من تعاليم فجر الضمير البشري: لا تُعِق تدفّق المياه الجارية.
ملاحظة: هذه التعاليم الموغلة في القدم مصريّة المنبع. مصر التي تعيق اليوم بطريقة ما تدفّق الطّعام ومنع المجاعة في غزّة.