"أوّل مرّة الفقراء يكعبروها للأغنياء" مزحة عابرة لشاب في تعليقه على الانتخابات تخفي المعركة الطبقية الثّاوية في النتائج المغيّبة في الكلام. فما حدث في أحد وجوهه انتقام هادئ وصامت وطيّب لفئات مطرودة داخل وطنها من طبقة سياسية ممتلئة البطن جائعة الروح والفكر ما فتئت منساقة في عبثها وأطماعها ولهفتها غافلة عن هؤلاء الذين في الضفّة الأخرى يراقبون بصمت وينتظرون بصبر عجيب نهاية الحكاية ويصنعون بمخيالهم الخلاص.هؤلاء لم يعد يقنعهم أيّ كلام ولا أيّة وعود.
لقد سقطت الطبقة السياسيّة القديمة والجديدة نهائيّا من عيونهم وصارت التعبيرة الأسوأ عن الجشع والفساد. وكان لا بدّ من تعبيرة خارج هذا العالم المويوء قادرة على أن تشعر المطرودين داخل الوطن بالمعنى.
الانتقام كان مزدوج المعنى باللجوء إلى المافيوزي وباللّجوء إلى القانوني معنيان متقابلان إلى حدّ المفارقة ولكن يلتقيان في البحث عن مفردات جديدة قريبة من الناس "إلّي تعاني ونساتهم الأغاني".
ولو لم يحدث التنفيس ديمقراطيّا بالانتخاب لكانت العاصفة الشبيهة بما حدث سنة 2011. فالسّيل قد بلغ الزبى ولكنّ المنشغلين بمعاركهم الخاصّة جدّا والضيّقة جدّا لا ينصتون إلى نبض الناس ولا إلى الحركة الخفيّة في المجتمع. والشباب الذي اختار من رأوه بديلا يشبه كثيرا الشباب الذي انتفض ذات 17 ديسمبر.
17 رمزيّة أخرى لقيس سعيّد المنحاز للثورة ولشباب الثورة وهو شباب تراجع وقدّم تنازلات السلطة للطبقة السياسية التي جازته بالخذلان، وأغرقت البلاد في صراعات الهويّة لتهمّش صراعات اجتماعية أعمق جهوية وطبقية غايتها في ذلك الإبقاء على هيمنة اللوبيات إلى الأبد. ولكنّ التاريخ يعلّمنا أنّ الأبد غير موجود وأنّ سيرورة التاريخ تحوّل وانقلاب وأنّ مكر التاريح ينتصر على إرادة الأفراد المعتدّين بقدرتهم على القبض على أنفاسه.
كان يمكن للانتقام أن يكون عنيفا دمويا كما حدث في 2011، وقد رأينا بعض تجلّياته خلال فياصنات الخريف، ولكنّ الديمقراطيّة التي تترسّخ تدريجيّا حوّلته إلى انتقام طيّب هادئ. لقد أجاد أصحاب حملة قيس سعيّد الإنصات إلى حركة المجتمع الخفية وأوجاعه الطبقية، وأجادوا توظيف الانتخابات، وسيمكّن ما حدث، إن استمرّ، الديمقراطية تدريجيّا من أن تتّجه إلى العمق الاجتماعي لتتحوّل إلى ديمقراطيّة اجتماعيّة تبشّر بعدالة حقيقيّة وتحوّل المطرودين داخل وطنهم إلى مواطنين كاملي الحقوق.
هذا يتطلّب نفوسا كبيرة قادرة على نسيان كلّ اختلافاتها للتوحّد الآن حول الأمل الذي أبرق فجأة واستطاع أن يعيد شعلة الثورة في النفوس. لقد جاء " ليشعل البيت نارا" تلك النار الخيّرة التي أطفأها ضيق أفق الأحزاب ومناوراتها الغبية وبحثها عن البقاء.
إفلات هذه الفرصة سيكون نهاية مدويّة للكثير.