في المطبخ ، كل شيء يُطبخ على الموسيقى. صلة ما عميقة بين الطبخ والموسيقى، تماما كما هي بين الطبخ والكتابة. كلاهما إعادة صياغة بطريقة ما. المراة التي تطبخ تصوغ الفكرة حتى من خلال صحن كفتاجي. وتقول أشياء. تماما كمن تكتب. وقد لا يفهمها الآكل الملهوف. تماما كما لا يفهم الكاتبةَ القارئُ الملهوف. وقد يحدث سوء الهضم كما يحدث سوء الفهم.
في الطبخ إيقاع متنوع تنصهر فيه الروائح والنكهات والألوان والأشكال.نظام جمالي وإيقاعي آخر للعالم. توقّعه يد المرأة وقلبها. جمل موسيقية تتلاحق ونوتات ساخنة حارة وحمراء وأخرى باردة منعشة وخضراء. الحروف والنوتات في انصهاراتها الكيميائية في القدر تصنع " شعرية" الأكلة كما لو كانت في نصّ حماسي أو في أوبيرات صاخبة، أحيانا تذوب حلاوة وغزلا كقصيدة عشق، وأحيانا هي غريبة غامضة مذاقها حلو مرير كصورة شعرية في نصّ درويشي.
كلّ أكلة نصّ وكلّ نص موسيقى.
في الكسكسي ثِقَل النصوص الفلسفية ودسامة الموسيقى الكلاسيكية التي تحتاج زمنا كي تهضم ولكنها تملأ البطن والعقل والوجدان وتمنع الخواء. الكسكسي يملأ الضلوع كما تقول جدّاتنا. كي تطبخ طبق كسكسي تحتاج موسيقى بيتهوفن القويّة أو أغاني عبد الوهاب أو صليحة وهي تغني: دار الفلك من بعد طول العشرة. وتشعر وأنت تحرّك الكسكسي بيدك في القصعة في حركة دائرية أنّ الفلك يدور، وأنّ الدهر حال بحال مرّة بمرّة. صيرورة داخل زمن دوّار لا يبقي ولا يذر، تدرك من خلالها قانون الوجود. إنّها حكمة الكسكسي.
في السلائط إيقاع الموسيقى الخفيفة غربية وشرقية. قد تسمع في السلاطة المشوية إيقاع أغنية: لو كان النار إلي كواتني كواتك. خاصّة حين تحرق أطراف أصابعك وانت تقلّب قرن الفلفل على النار الملتهبة، وقد تسمع عبد الحليم يصرخ: " نار يا حبيبي نار" وتدرك فعل النار في الحضارة. النار التي أنتجت كلّ هذا الزخم فكرا وفنّا وموسيقى وأطعمة.
وتتذكّر الأطعمة اليابانية الباردة التي لم تحبّها قطّ فتحمد الله على أطعمتنا النارية الحارقة التي تكوينا فنحبها أكثر وقد تتساقط دموعنا ونوحوح ونصرّ رغم ذلك على الاكتواء. إنّه الاقتراب اللذيذ من المعنى الذي لا نراه إلا ملتهبا ناريا.
نحن خارج الكوكب الياباني البارد والعقلاني. لا نحب الأكلات الباردة والمعاني الباردة. نحن شعوب الاكتواء في الأكل وفي العاطفة وفي العبادة وفي الثورة. ناريون في كلّ شيء. ألم يحرق البوعزيزي نفسه ذات شتاء؟ فصنع المعنى الناري. إنّها فتنة النار.
في عجين البيتزا والعجين عموما أرى الحلوة تعجن في الصبحية على صوت فيروز القادم من فجر العالم. لا شيء يشبه صوتها. في ترنّم فيروز تسمع إيقاع العجن وترى اختمار العجينة وتشمّ فوح الرائحة. العجن فعل لذيذ يحتاج مهارة حتّى تصلك طقطقات العجينة التي تعلن بداية انصهارها الكيميائي واستسلامها لإرادة الأيدي القويّة التي تمسك بها، الأيدي التي قد تتعب عضلاتها ولكنّها تدرك أن لا شيء يأتي بسهولة، وأنّ الأمر يتطلّب صبرا على الأذى ومراكمة طويلة. طويلة جدا.
أليس هذا الواقع الذي نعيش اليوم سوى عجينة فاسدة لم ننجح في تشكيلها وفق رؤيانا لأنّنا تعجّلنا النتيجة؟ أو لأننا لم نبذل جهدا كافيا؟ أو لفساد الخميرة؟ أو لضعف الأيدي المرتعشة؟ أو لأنّ المراكمة لم تحدث؟
في المطبخ كلّ العالم. كما في الكتابة كلّ العالم. وكذلك في الموسيقى.. كلّ العالم.
والقهوة بعد شقان الفطر.. هي كلّ هذا..جميعا.
شهية طيبة