انكسرت العصا التي كان يهشّ بها تلامذتنا على فروضهم.. ضلّوا الطّريق واستشعروا الذّئب قريبا.. فصرخوا..
ثار تلاميذنا لمجرّد خروج قانون يمنع السّاعات الإضافيّة .. ليس لأنّ القانون جائر بل لأنّ تلامذتنا اعتادوا منذ السّنة الأولى ابتدائي ( وهو عار حقيقيّ ) على عكّاز الّسّاعات الإضافيّة .. فلم يعودوا قادرين على السّير بدونه.. تماما كشيخ فقد القدرة على المشي وحيدا.. دون عكّازة يتّكئ عليها تقيه السّقوط..
الاعتماد على عكّازة السّاعات الإضافيّة لازم التّلاميذ سنوات طويلة. وصار الدّرس في القسم لا يكفي بل هو في كثير من الأحيان أمرا ثانويّا لا يلتفت إليه التّلاميذ الذّين " تشبّعوا " به خارجا في " تعليم مواز " يخضع لقانون البيع والشّراء ولا يهتمّ به سوى تلاميذ غير قادرين على مواكبة " حمّى " السّاعات الإضافيّة وأسعارها المشطّة أحيانا .. وهي حقيقة أخرى لا يمكن إخفاؤها.. شارك فيها الجميع: أساتذة وتلاميذ وأولياء ووزارة ظلّت لسنوات طويلة تغلق عينيها عن التّجاوزات الخطيرة .. ففاقد الشّيء لا يعطيه..
عكّازة السّاعات الإضافيّة كانت جرّاء تهميش التّعليم العموميّ الذّي فقد بدوره عكّازته: دفاع الدّولة عنه وصيانتها له. فصار غير قادر على الوقوف في وجه خوصصة التّعليم الذّي طغى منذ سنوات طويلة وحاول الهيمنة بقوّة المال. صار التّعليم العموميّ شيخا هرما يفتقد العناية ويتعثّر في سيره ولاذ الكثير بالمال لإنقاذ أبنائهم.
وعكّازة السّاعات الإضافيّة كانت نتيجة تهميش المعلّم والأستاذ الذّي تدهورت مقدرته الشّرائيّة وصار أقرب إلى الفئات المفقّرة. بعيدا عن " تغوّل " البعض وإثرائهم بابتعادهم عن التّعليم كقيمة ومعرفة وتحويله إلى تجارة. وهؤلاء قلّة لا يقاس عليها.
السّاعات الإضافيّة عكّازة المدرّس أيضا ليعيش بكرامة لم توفّرها له الدّولة.
وعكّازة السّاعات الإضافيّة كانت نتيجة أولياء غير قادرين على القيام بدورهم في المتابعة والمراقبة والتّربية فدفعوا بأبنائهم منذ السّنوات الأولى إلى المدرّس يقرّر مصيرهم مقابل دفع المال دون تردّد. يكفي أن يريحه المدرّس من تحمّل مسؤوليّة ابنه في البيت وهو المنهك بالعمل وأشياء أخرى.
هي عكّازة الأولياء أيضا الحائرين أمام تعليم تعقّدت مناهجه وتغيّرت طرقه وكان ومازال مختبر تجارب لا ندري ماهيّة الإنسان الذّي ستنتجه.
تعليم كهذا لا يعوّل فيه التّلميذ على نفسه ولا يعتمد على البحث والتقصّي والتّراكم المعرفي والجري وراء الفكرة والمعنى والسّعي إلى الابتكار والتميّز، ألن ينتج بدوره إنسانا لا يسير في حياته إلّا بعكاكيز سواء في دراسته الجامعيّة أوفي عمله وفي حياته الأسريّة وتربيته لأبنائه أوفي حياته الاجتماعيّة والسّياسيّة؟
مجتمع العكاكيز.. نراه كلّ يوم.. السّياسيّ الذّي يتعكّز على السّفارات والاقتصاديّ الذّي يتعكّز على الصّناديق والبنوك الدّوليّة والإعلامي الذّي يتعكّز على الكذب والصّحفي الذّي يتعكّز على التّزوير والمهندس الذّي يتعكّز على السّرقة..
هذا ما أنتجه تعليم معطّب: إنسان معطّب لا قدرة له على البناء السّليم.. على الابتكار والتّفكير الصّائب.. على التّعويل عن الذّات.. تماما كالتّلميذ العاجز بمفرده عن بناء فرض سليم.
تحرير التّعليم من عطبه وتحرير التّلميذ من عطبه يكون بكسر العصا التي يتّكئ عليها وتبنّي الدّولة للظّاهرة وتحويلها إلى علاج منظّم ومدروس للثّغرات التي يعاني منها التّلاميذ والثّقوب التي تملأ تكوينهم نتيجة سنوات طويلة من التعثّر وعدم الترقّي عرفانيّا.
مجتمع العكاكيز يحتاج أن يتعلّم السّير وحيدا دون الاتّكاء على شيء ما.. وعليه أن يلقي عكّازته بعيدا ليتعلّم القفز والتّحليق كالطّيور الحرّة..
سنفهم آنذاك لماذا قفزت شعوب استقلّت في نفس زمننا بعيدا عنّا..
لقد كسرت عكاكيزها وعوّلت على طاقاتها الذّاتيّة وعلى ذكائها البشريّ ولم تهدر الإنسان داخلها.. بل أكرمته.. ولم تعد تخاف الذّئب الذّي لا يفتك إلّا بالضّعفاء الذّي يتّكئون على عكاكيزهم..