منذ عودتي وأنا أبحث على الأرض عن مبرّرات للفرح الطاغي الذي عاشه بعض التونسيين منذ 25 جويلية. فرح جعل البعض يسألني: هل فرحتم هناك مثلما فرحنا؟ كنت دوما أتساءل عن ماهيّة هذا الفرح الذي يشبه الرقص البدائي حول نار ملتهبة وإطلاق الولولات كلّما أُلقِيَ بأحدهم وسط الهاوية. اندفاع جماعيّ غرائزيّ يشبه ما حدث لجمال الجزائري أثناء حرائق الجزائر، ولكنّه لدينا اندفاع همجيّ لايزال يكتفي بالكلام. لحسن حظّنا.
ولكن لا شيء يُطمئنّ بأنّ هذا الحظّ " السعيد " هو أحد قواعد وجودنا التونسي المشترك، فالأمور لا تديرها الصّدف دوما، بل يسيّرها العقل السياسيّ الراجح. وهو لا يكون عادة عقلا سياسيا واحدا. بل العقل هنا مفرد في صيغة جمع. جموع من العقول التي يقتضي أن تدبّر أمرنا حاليا وسط هذا المأزق الذي نعيش.
وإن غابت، أو تمّ تغييبها قسرا، عبر الترهيب الكلامي وتكميم الأفواه بالشّتم وهتك الأعراض، غابت الرّؤى والتصوّرات والمقاربات الجماعية لتسود الحلول الفرديّة الضيّقة والمحدودة والمبايعات المطلقة والمحاكمات الشعبية التي تحتكم للمقصلة، ولتشيع الخيالات والاستيهامات بقدرة فرديّة على المعجز والخارق تنتج فرحا أحمق بأوهام لا وجود لها خارج الرأس المحاصرة والعقل المسيّج.
حديث الجوعى والفقراء والمساكين، والمنقذ الحامل للعصا السحريّة، برعاية قوى "غيبيّة" نسمع بها ولا نراها، أليس هو الحديث الأفضل للتحشيد ودفع الجموع إلى قبول تغيير النظام السياسي نحو نظام رئاسي أوحد؟ وهو هدف تتوحّد حوله مجموعات داخلية معادية في جلّها لأيّ إصلاحات جذرية اقتصادية واجتماعية لصالح " الفقراء والجوعى "، ويتحمّس له شباب يفترض أن يدافعوا بشراسة عن ديمقراطيّة حقيقيّة، تتحرّر من المال الفاسد ومن العداوات التاريخية الموروثة منذ ثلاثة عقود على الأقل، وأيضا من الأوهام حين لا يكون المشروع معبّدا بالعقل وإنّما بالرّغبة العمياء في الإلقاء بالخصوم في الهاوية.
فرح "الفقراء" الذي يخفي انياب " الأغنياء" البارزة وهي تنتظر الإلقاء بجثّة الديمقراطيّة للفتك بها بعد أن نهشتها لسنوات طويلة من الداخل والخارج الأظافر الحادّة لأعدائها وأصدقائها، ولم تنجح أياديها المرتعشة وجسدها الواهن وعقلها السياسيّ المنهك من أن يمنع تداعيها، يبدو حتّى الآن فرحا خاويا. يمتلئ كلّ يوم بالكلام وبدويّ التصفيق والهتافات لينتهي إلى الخواء ثانية حين يدرك أنّ الحلّ ليس في الاستعراضات المشهديّة اليوميّة ولا في المنجزات الكلامية المدويّة والقصف الصاروخي المدمر، وإنّما في العمل وفق رؤية مشتركة لا يحتكرها فرد واحد، بل يساهم فيها كلّ من برهنت السنوات الأخيرة على نظافة يده وعلى تعفّفه عن منطق الغنيمة وعلى إيمانه العميق بديمقراطية اجتماعية تحقّق العيش العادل والكريم. معركة طويلة للتحرّر من العداوات والفساد المتغلغل لقرون في النفوس ولإنقاذ وطن يحمل إثم مائتي سنة على الأقل.
بعض هؤلاء ممّن لم يسرق ولم يخن ولم يطمع، في السّجن الآن.
في حين يرتع المحتكرون والمهرّبون والناهبون، هؤلاء الذين مللنا ذكرهم وحتى تسميتهم من فرط الحديث عنهم بفرقعات مدويّة تصلهم، ولكنّها لا تطالهم.
فرح " الفقراء" الخاوي، ذاك الذي يشبه رقصة بدائيّة لعراة يطلقون ولولات حول نار ملتهبة، وينشدون كلّ مرّة وقودا جديدا يُلقى إليهم لتعلو الولولات، هو فرح تلتهم ناره الفقراء، أمّا رعاة الفساد فمازالوا تحت الحماية. إنّهم في الظلّ.
في انتظار فرح ممتلئ، لا يتحقّق إلا بامتلاء الكيان بالقيم الكبرى التي أنتجت شعوبا عظيمة.