هل كانت إعادة إنتاج الديكتاتوريات العربية بعد موجة الثّورات التي رفعت من بين ما رفعت شعار تحرير فلسطين، ضروريّة للذهاب بعيدا نحو الاتّفاقيات " الأبراهيمية "، ونحو التخطيط للقضاء على المقاومة بضمان التّواطئ العربي المخزي مع الكيان ؟
يبدو أنّ وجود ديمقراطيات عربيّة مجاورة للدّولة العنصريّة والإجراميّة المسمّاة إسرائيل كان سيغيّر المعادلة إلى حدّ ما، ويبدو أنّ نجاح الثّورات الذي لم يحدث كان سيؤسّس لواقع عربيّ مختلف غير الواقع الحالي الذي تتخبّط فيه الشّعوب وتشتدّ قبضة الدول لمحاصرتها.
يكفي أن نعاين اليوم تخاذل الديكتاتوريات العربية المخجل أمام إبادة مفجعة في غزّة حتّى ندرك لِمَ تمّت محاربة الثورات بكلّ الشّراسة الممكنة، ولم تمّ تشويهها باتّهامها بأنّها مخطّط عبريّ ( تهمة مازال يصرّ عليها البعض رغم تخاذل الأصنام التي يعبدونها )، ولِمَ أسرع الغرب بدعم انقلابات ومجازر محليّة لاستعادة الديكتاتوريات، ولم تمّ رصد أموال ضخمة وإنجاز اغتيالات قاتلة للانحراف بالثورات وتحويل وجهتها وتشويهها، ولم وقع دكّ أحلام الشعوب العربية وتقويض أفكار الحريّة والعدل والكرامة.
كان الأمر أبعد من نسف ديمقراطية شكليّة كان بإمكانها أن تتجذّر وتستنبت أشجارا من الرّؤى الجديدة لوجود مغاير. لقد كان نسفا لجسد عربي ديمقراطيّ ممكن قادر على تهديد حقيقي لدولة لاشرعيّة قامت على اغتصاب الحقّ والأرض، وكان لا بدّ من أن تجاورها أنظمة عربيّة لاديمقراطيّة ولاشرعيّة أيضا قام جلّها على مبدأ الانقلاب واغتصاب الدّساتير والشرعيّات، كان لا بدّ من ذلك حتّى تطمئنّ المسمّاة إسرائيل ومن ورائها أمريكا على استقرار النّظام العالمي الأخرق، وعلى ضمان ديمومتيهما كحجرين أساسيين في منظومة اللّاعدل العالمية.
اليوم، في أيّام الدم والخبز الغزاوي، في أيّام الطّفولة المستباحة من العالم " الحرّ " و " الإنساني " جدّا بطريقته العمياء، وبمباركة الأنظمة العربية المتواطئة، تمتلئ الشّعوب بالغيظ والقهر والغضب، وتكتفي بذلك، فهي لا تملك شيئا. إنّها بدورها تقف في الطوابير في انتظار الخبز. ولم تنجح في أن تؤسّس لقوّة تكون سندا حقيقيا بعد أن تمّ إخضاعها نهائيّا بالانقلابات وإسالة الدّماء والسّجن والقهر، وهي تعلم أنّ المقاومة لا تنتظر شيئا منها. وربّما، ربّما عليها أن تحرّر نفسها أوّلا من الخديعة، قبل أن تحاول أن تلحق بالمقاومة التي تحلّق بعيدا في مدارات أخرى من مدارات الوجود حيث الحريّة تبلغ الذرى.
اليوم في أيّام الخبز المخضّب بالدّماء، في أيّام الإخوة الذين تضخّ لهم الأموال ليصمتوا عن القتل المفجع لإخوتهم في غزّة، يتمّ اقتلاع قلب العالم من أوردته، ليصبح وحشا يمحق بلا رحمة أطفالا ونساء وشيوخا وعائلات بأكملها داخل أرض محاصرة، أمام هذا المشهد المفجع حتّى الموت قد يصبح بالإمكان أن نعيش يقظة وعي: لن نستطيع شيئا دون أن نكون أحرارا. نحن المحاصرون بالشّعبويّات والانقلابات والمفاهيم الخادعة والخرافات الجديدة والقديمة وبأوهام الزّعماء الذين سيصنعون المعجزات وأوهام المثقفين صنّاع الزيف والأصنام.
وسنشكر غزّة التي عرّت لنا حقيقة العالم لنراه كما هو في كامل خديعته. أنانيّ ومجنون وغرائزيّ في دفاعه عن مصلحته.