كلّ الذين حدّثوني بفخر عن تعرّضهم للضرب والإهانة وهم أطفال وشباب من الأب الشديد في تربيته لم يقنعوني. كلّ الذين قالوا بفخر إنّهم صاروا رجالا بذلك لم يقنعوني. ربّما كانوا يقنعون أنفسهم بأنّهم أفضل من الجيل الحالي، أو بأنّ ما قام به الأب كان محبّة مقنّعة، وبأنّ آباء اليوم لا يحبّون أبناءهم وأنّهم "ينجبون ويهملون" ( وهم منهم ). لا يمكن أن أقتنع بأنّ العنف طريقة جيّدة في التّربية. وأنّ القسوة المبالغ فيها سبيل لصنع الرّجال. كان في نبرة أصواتهم ما يشي باضطراب ما. كان هناك كسر يخفونه.
روى لي البعض أنّ بعض اللآباء يربطون أبناءهم إلى شجرة أو ساق طاولة، أو يضربونهم ويمنعونهم من الصّراخ والبكاء. أليست هذه طرق التعذيب في قبو مؤسّسة القمع المتمركزة في قلب المدينة؟ أليس هذا ما يبرّر حبّ الديكتاتور/ الأب واعتباره المخلّص والمنقذ؟ أليس هذا ما يبرّر الصرخة الشهيرة: اضرب.. نحنا معاك.
لا اعتقد ان الحل في وضع الجسد الهشّ على ذمة الاب الاستبدادي ثانية، ولا أعتقد أنّ الحلّ أيضا في قتل الأب والغاء دوره فالأب هو ذاك الذي يمتلئ وجودنا به ويستقرّ وليس ذاك الذي يهتزّ وجودنا به فنتيه بحثا عن الذات. هو الأب الذي تكون قسوته تأسيسا ولينه بناء. وليس ذاك الذي تصبح قسوته قتلا. وليس كلّ الأحياء أحياء.
الصّامتون الانطوائيون المنعزلون ليسوا دوما عقلاء كما نسمّيهم. قد يكونون أيضا ودون تعميم مكسوري الروح ويحتاجون جبرا. أو انتهى بهم الأمر بعد انقماع ذاتي رهيب إلى لوثة ما.
ولا أعتقد فعلا أنّ هناك نمط تربية محدّد ينبغي اتّباعه. التربية إبداع خاصّ يحتاج شغفا حقيقيّا وعشقا لما نفعل. وما نفعل ليس هيّنا. إنّه بناء كيان. فهل يمكن أن تخيّل حجم هذا الفعل؟ وما العلم التربوي وعلوم النفس وغيرها سوى أدوات لاستكمال هذا الإبداع وليس كلّها.
التربية شيء يشبه إنشاء نصّ متميّز لا يشبه أيّ نصّ آخر. لذّة أخرى لاستكمال وجودنا. وهي بسيطة في ممارستها صادقة وعميقة. ولا تصبح التربية معقّدة إلا في واقع معقّد ابتلعته قيم السّوق، آنذاك يصبح دور الأب / الأم / المربي منشئو النصّ / الطّفل حماية الطفل من الغرق إلى حدّ الاستيلاب في قيم السوق وتقديم رؤى أخرى للعالم إليه تفتح له أفقا آخر للوجود، تحصنّه من التشيّئ وتُبقي على التوهّج داخله. وهي عمليّة عسيرة لا يقدر عليها إلا من يقدر عليها.
هل نحن ذوات متوهّجة مرحة صادقة حيّة؟
من الأسئلة التي يمكن أن تلقى حول الذات التونسيّة، لفهم تشعّباتها وترسّباتها العميقة.
خبراء التلفزة ومختصّو التربية في التلفزة
خبراء التلفزة ومختصّو التربية في التلفزة يتحدّثون عن تردّي أداء المؤسّسة التربويّة وتحوّلها إلى أداة تلقين ابتداء من العشر سنوات الأخيرة.
وبما أنّي أقدم من السّنوات العشر التي صار التلفّظ بها ونعتها بالسّوداء أو العجفاء ( كلمات متخشّبة ) شرطا للقبول التلفزي على ما يبدو، أودّ أن أذكّر السّادة الخبراء أنّ تردّي التعليم سابق لذلك بكثير. وأنّ التّعليم لم يكن الجنّة، وأنّ تهميش التعليم العمومي بدأ مع الاتّجاه إلى الخوصصة مع العائلة الحاكمة أواخر التسعينات، ومع الفساد المالي وغياب الصّيانة داخل المؤسّسات، ومع انتشار الدروس الخاصّة خارج المؤسّسة استجابة لثقافة الجشع التي سادت من خلال برامج الألعاب التلفزيّة في تلك الآونة، ومازلنا نذكر أبطالها، وأنّ تسييس التعليم وجعل المؤسّسات التربويّة في قبضة الحزب الواحد وتحويله إلى أداة لإرضاء الرّأي العام برفع نسبة النّجاح بإضافة 25 بالمائة أدّي إلى إفراغ التّعليم من أهدافه الأسمى المتمثّلة في بناء الإنسان، قبل نيل الشّهادة.
وأنّنا قمنا بمحاولات هامة لتجاوز التلقين قبل وبعد الثورة.
لم نفقد الذاكرة بعد.