مقبرة في القلب

Photo

هي مقبرة في قلب مدينة أقمت بها زمنا تقع بجانب حيّ من أرقى الأحياء وقبالة مقرّ البلديّة. وكنت دائما أسأل نفسي وأنا أمرّ بها: كيف يمكن أن يتجاور الأحياء والأموات على هذا النّحو حتّى أنّك وأنت تمرّصباحا من الخلف حيث الحيّ السّكني يبلغك نواح أمّ ثكلى أو أرملة مهيضة الجناح فتسأل: أيّ خطأ جعل المقبرة قلب المدينة ونبضها؟ أيّ هندسة رسمت مصير المدينة وأهلها فجعلت الموت محورا وقطبا؟ وهي نفس الهندسة التي جعلت السّجن يقع في قلب المدينة أيضا وغير بعيد عن المقبرة ؟ هي هندسة الخراب المتقنة التّي جعلت الموت والأسر معنيين كبيرين في مدينة أفرطت في حبّها وكرهها في آن. ما كان يخفّف عنّي أنّ جزءا منّي قبر هناك. عصفور جنّة أراد الطّيران إلى السّماء قبل الأوان وكنت كلّما مررت مع ابني الأصغر نناديه باسمه الذّي اختاره له ابني ( خالد ) ونحدّثه مازحين في حزن عن حسابه الفايسبوكي الذّي أصرّ ابني الأصغر على أن يسمّيه باسمه لتخليده ( احذروا هناك حسابات فايسبوكيّة لعصافير الجنّة أيضا ). كانت محاولة طفوليّة لمقاومة الموت.

كان وجود المقبرة والسّجن في قلب المدينة مصدر حيرة لديّ تتعلّق بالمدينة " العصريّة " التّي أنتجها " تحديث قسريّ " جعلها بفعل الفوضى وغياب الرّؤية الخلّاقة مدينة للموت والغلّ. وكان يمكن أن تكون مدينة للورد والفلّ.

غادرت المدينة ولم أعد أمرّ بالمقبرة ولا أسمع نواح الثّكالى ولكنّي لم أغادر المقبرة . وجدت مقابر عديدة مجازيّة هنا وهناك حيث التّعايش مع الموتى بحثا عن صنم للعبادة أو عن معنى ما في الماضي يوهم بالاستمرار في الحاضر. مدن يجتمع فيها أبناء النّمط وأبناء الأولياء وكلاهما يحمل مقبرة في القلب. تقديس الزّعماء وتقديس الأولياء والأسلاف سواء. التحسّر على الرّؤساء الموتى والفارّين وعلى الأولياء الصّالحين سواء.

أكبر المقابر في العقول حيث يضيق الأفق بهيمنة المصالح وحيث تصبح العقليّات سجون يتحنّط فيها التّفكير والأنساق قضبان والإيديولوجيّات زنازين والوثوقيّة أغلال والأشخاص أصنام والماضي مقبرة الحاضر الذّي يتعثّر في سيره نحو الآتي وسط أضرحة يتمسّح على أعتابها " السّاسة صنّاع المستقبل " ليضفوا قداسة الرّمز على وجودهم المفرغ من المعنى وليحتلّوا موقعا في سلطة بهم هوس بها.

مدننا " العصريّة " التي بنتها الدّولة " الحديثة " لا تزال مدن تستوطن قلوبها وعقولها المقابر فيصبح الجديد غريبا منبوذا وتصبح الفكرة الخلّاقة " شيطانا " للرّجم والمعنى الجميل صعلوكا تنبذه القبيلة. المدن تشبه أهلها..

حين كنت في مدينة المقبرة كنت أوصي أحبّتي ألّا أدفن هناك إذا رحلت مع العصافير إلى السّماء خوفا من أن أصبح جزءا من قلب المدينة الميّت. وحين زرت مقبرة المهديّة. مقبرة ينام مصطافوها الموتى على صوت أمواج البحر أبدا اشتهيت الموت هناك. حيث تتمدّد القدمين لتلامس الموج والرّأس مرفوع يراقب النّجوم في السّماء والقمر يمرّ سريعا وراء غيمة حريريّة والرّوح تسبّح في ملكوت اللّه..

حتّى الموت يريد أفقا جميلا وجديدا فمابالك الحياة؟

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات