ستطول الأزمة أكثر وستصبح حالة دائمة، ذلك أنّ الاستثمار في الأزمة يسمح باتّخاذ القرارات والذّهاب فيها بعيدا دون مواطن قادر على المواجهة، لأنّه سيكون آنذاك مشغولا بأزمته اليومية، وسيكتفي بالسّخرية من كلّ شيء، وبحالة لايقين عارمة، وعدم ثقة مطلقة.
الاستثمار في الأزمة هو أهمّ أساليب الهيمنة اليوم كما أقرّ ذلك الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبن: " اليوم، أصبحت الأزمة أداة هيمنة، فهي تستخدم من أجل شرعنة القرارات السياسية والاقتصادية التي تقوم في واقع الأمر بتجريد المواطنين وحرمانهم من كلّ امكانية للقرار ". لقد تمّت تهيئة المواطن هنا لقبول كلّ ما يقدّم له جاهزا دون مشاركة، وسيكتفي بالفرجة وبردود الفعل البافلوفيّة، وستضيع وسط اللّايقين ردود الفعل المعقلنة، وستبدو غريبة حتّى أنّها تثير الضحك.
هكذا تَحوّلنا إلى " الأعراض القاتلة " التي تحدّث عنها غرامشي حيث لا الجديد الديمقراطي كان مقنعا إلى حدّ الخروج للدّفاع عنه بكلّ الأشكال والأساليب، ولا القديم المضمحلّ اضمحلّ بحيث قدرنا على التخلّص من أعراضه وأمراضه، بل نجح دوما في العودة بأشكال جديدة.
وقد ينهب في عودته مفاهيم الثورة ومشاريعها وطرقها ليهيمن وليستعيد ألق حكم الفرد وتحكّمه في الحريّات وتكميمه للأفواه. في الأثناء سيطيل الأزمة كما فعل دوما لتبرير كلّ القرارات والقوانين ولتبرير غياب الحريّات خاصّة ووضع المعارضين في السّجون: الأزمة دائمة وأنا وحدي أملك الحل. هكذا تصبح الأزمة ضرورية لبقائه، ضرورية لمواطن لا قرار له ينتظر يوميّا فرجة جديدة لسخرية جديدة هي بابه الوحيد للتنفيس عن ضيقه في أزمته الدائمة.
لا شيء يناسب نظاما مأزوما أكثر من " أرض غير آمنة " يسودها الخوف الجماعي الحقيقي والواهم والرغبة في المغادرة والتقسيم إلى وطنيين وخونة والنّكوص إلى " الرّحم الهووي " للنجاة.
لقد أوجد الأزمة كأفضل ما يكون، في اكتمالها المثالي، ونجح في تعميقها إلى الحدّ الذي امتلك به رقاب الجميع. لعلّها الطريقة الجديدة في السيطرة التي تنبّأ بها ألدوس هكسلي منذ ثلاثينات القرن الماضي في كتابه: عالم جديد شجاع. إنّنا نعيش اليوم هذا العالم الجديد الشجاع بكلّ الجبن الذي تحمله ذات بشريّة تمّ العبث بها وتحويلها إلى استجابات طيّعة لمنبّهات مبرمجة. لعلّنا في تونس العيّنة الأمثل والأكمل.
النّجاة لا أراها خارج الأفق الإيتيقي أي خارج استرداد الإنسان هنا لذاته. إنّ سبيل الخروج من فوضانا هو أصالة إنسانيّة تقوم أساسا على الحرية الحقيقية، وهذا يحتاج تغيير الإنسان من الداخل. عمل جبّار يحتاج زمنا كثيفا إن كنا لا نيأس من الإنسان. أمّا حكم الفرد فيظلّ خارج الحل وإن يتمّ الترويج له كحلّ أوحد.
دون ذلك، سيظلّ الناس هنا يفتحون باب التنفيس كلّ ليلة، ليدخلوا هواء جديدا لبيوتهم التي مسّتها الأزمة حتّى النّخاع.