من السفوح والمرتفعات الأولى لجبال الألب حيث القرى الجميلة المقيمة في الأخضر بسطوحها القرميدية الحمراء، وحيث أتنفّس هواء الأعالي في الصمت المطلق للكون، في كنف الصّمت الإلهي، أراها. وفي امتدادات المسافة تتّضح الرؤية. قليلا. ويجلو الضباب. قليلا أيضا. فكلّما ابتعدنا عن البلاد بانت هندسة البلاد ومهندسو الأوهام والخيالات والغضب والفرح والسّخط والرّضا والشّعارات المهيّجة للعاطفة والغريزة واللغة المحمّلة بكلّ ورَطاتنا المشتركة: ورطة شعبويّة تبيع الآمال الواهمة لفئات منهكة بالبطالة وبالفقر وباليأس.
وورطة ديمقراطيّة شكليّة منهكة بأحزاب لاديمقراطية وسياسيين لاديمقراطيين ومشوّهة بالمال الفاسد وبقبضة العائلات المتحكّمة في الاقتصاد والثروة وبجوقات المنظومة القديمة. وضع طبيعيّ حين لا تجد الديمقراطيّة الجديدة كتلا قويّة مشبعة بالإرادة وبالمفاهيم وبالرؤى الديمقراطيّة الجديدة لتتحرّر من شكلانيتها فتذهب عميقا إلى قاع المجتمع حيث انتظارات العدالة الاجتماعية وحيث الظّمأ إلى الحياة الكريمة وحيث الغضب والنقمة على كلّ شيء.
لقد توقّفت الدّيمقراطيّة المعطّلة منذ عشر سنوات ب"اللؤم" السياسي الذي يخفي وراءه "لؤما" اقتصاديا واجتماعيا يمنع تحقّق شعارات العدالة والكرامة التي رفعتها حناجر الشباب الغاضب ذات ديسمبر 2010 عن الفعل الحقيقي، فلم تحفر عميقا في تشعّبات وجودنا المعقّدة، ولم تتطوّر وظلّت الديمقراطيّة الهشّة والمفخّخة والسطحيّة أرضا خصبة لكلّ الانقلابات والتقلّبات التي عشنا ونعيش.
في هذه الأرض المفخّخة، ووسط الجهل بشروط الديمقراطية حتّى لدى الأحزاب التي تحمل اسم "ديمقراطيّة"، ومع تفكّك الكيانات السياسية، ومع وجود أفراد / زعماء / خلفاء وقياصرة يهجسون بالبقاء في السّلطة بأيّ ثمن ولو بالتّضحية بأحزابهم وبأنصارهم، ومع الغوغاء اليوميّة، من الطبيعي،أيضا، أن تتخلّق لدى الناس انتظارات جديدة، وهوس بالزعيم المنقذ، ورغبة في التغيير ولو كانت نحو أرض عقيم، نحو الصحراء. شيء يشبه ما وقع في انقلاب 7 نوفمبر.
إنّه تاريخ ليل انقلاباتنا الطويل حيث العجز عن طرح المشروع بصراحة أمام الناس وإقناعهم به وتحويله إلى حلم مشترك، ربّما لغياب المشروع ذاته، أو لغياب كتل تتبنّاه وتقنع به، وربّما لعدم الثقة بقبول الناس به بعيدا عن الغوغاء والتحشيد وعن مواويل تخفيض الأسعار وإرجاع ثمن البطاطا إلي 500م، نفس المواويل التي سمعنا إثر انقلاب 7 نوفمبر، فيكون الحلّ دوما القوّة العسكريّة، والقبض على كلّ السّلطات، والسعي إلى تغيير النّظام السياسي بالقوّة، وتأويل الدّستور بعنف المشروعيّة.
هل يمكن أن نؤسّس لشيء ما مبهج لهذا الوطن بهذا العنف السياسي المتذرّع بالمشروعيّة؟
يعني هل يمكن لما حدث أن يدخلنا التاريخ ثانية، كما أدخلتنا ثورة 17 / 14 التاريخ؟
التاريخ يقول إنّ كلّ الانقلابات تتذرّع بمشروعيّة ما، وأنّها تتحوّل تدريجيا إلى الخسران لأنّها لا تنجو في الغالب من قبضة قوى المال والمحاور الاقليمية التي تكون في غالب الأحيان من يدفع إليها، ومن يُرتّب مصائرها ومآلاتها، ومن يحدّد الأدوار، ومن يرسم الخطط والوظائف ويحدّد المفاهيم والمصطلحات.
في لحظة ما، ما بين 17 و14 انفلتنا من هذه القبضة. كانت لحظة عالية جدّا لم تجد من يمسك بها ليحوّلها إلى تاريخ جديد لنا. وباستثناء من حاولوا مخلصين، ومازالوا، كان البقيّة لصوصا لها.
ومازال اللصوص يحاولون..
هنا، من بدايات مرتفعات جبال الألب، وأنا أتنفس هواء الأعالي، عميقا، برئتيّ التونسيّتين المرهقتين، وكأنني أحتاج قاروة أكسجين، تعلّمني الجبال بحقول الخزامى حولها وشقائق النعمان وبأزقّة قراها القادمة من القرون الوسطى وأديرتها المطمئنّة إلى الحضن الديمقراطيّ أن لا حدود للآمال، ولا حدود للحلم، ولا حدود للفكرة، ولا حدود للاختلاف، وأنّ التاريخ ليس خطّا مستقيما، بل هو جبال من الدّانتال، كما يسمّون تعرّجات الجبال البعيدة هنا.
هنا حيث الناس تشرّبوا قيم الديمقراطيّة على امتداد قرون، فلوّنت أرواحهم بمرح ديمقراطيّ، وبجمالية اختلاف رهيبة يحتضنونك بها، أدرك أنّ أمامنا أزمنة أخرى حتى نكون التّونسي المرح، المبتهج بوجوده، وحتى نقدر على الفعل داخل أزمة هيكليّة ممتدّة منذ عقود، تحاصرنا.
وسنحتاج إلى من يصنع أفكارا حول غدنا، وإلى من يحاورها مع الناس، وإلى من يصغي إلى المختلف، حتى لا يكون أحدُنا المتكلّم الوحيد وسط مجتمع أخرس فقد عقله بقوّة السّلب التي يتعرّض لها.
نحتاج الفكرة المركّبة لورطة مركّبة: لا تُلغي الديمقراطيّة، ولا تُبقي عليها كما هي.