في " الجميلة والوحش " يتحوّل الوحش بفعل الحبّ إلى أمير جميل وينتهي السّحر إلى الأبد. أمّا جميلتنا: تونس فعجزت عن تحويل " البانديّة " الذّين صنعهم " السّاحر " الأكبر وفرّ إلى بشر عاديين.
أينما ولّيت وجهك هنا فثمّة " بانديّة "..
تفتح التّلفاز فيطلّ عليك رأس أحدهم يدّعي أنّه منشّط لتسمع وأنت في بيتك بين أسرتك ما تكره: بذاءة وأكاذيب ومغالطات وإسفاف وابتذال وأخبار وهميّة فتشعر أنّك أمام " باندي " إعلامي ببدلة أنيقة وابتسامة تلفزيّة ماكرة.
أو قد يطلّ عليك رأس أحد أبناء زعيم العصابة الفارّ ليحدّثنا عن إنجازاته هازئا بدناءة بقيم الثّورة وشهدائها متحدّثا عن مؤامرة ضدّ رئيسه متطاولا على رموز النّضال في وقاحة عجيبة. فتجد نفسك أمام " باندي " أخرج من أنقاض البناء المتداعي للنّظام القديم لغاية ما.
أو قد يطلّ عليك رأس أحد الخبراء الذّي يصفعك بأكاذيب كالحقائق مقدّما أرقاما زائفة فيتحوّل إلى " باندي " بغلاف علميّ.
أو قد يطلّ عليك رأس أحد الشّيوخ الذّين تدهش لتدنّي اللّغة التي يخاطب بها الآخر فتشعر أنّك أمام شيخ دين " باندي " أيضا.
أو قد يطلّ عليك رأس أحد " الدّيمقراطيين " أو " الدّيمقراطيّات " ليمارس كلّ أشكال " الاغتيال " المعنوي " لخصمه الحقيقيّ أو الوهميّ متوسّلا في ذلك كلّ الحيل اللّغويّة والبلاغيّة والقانونيّة و " الدّيمقراطيّة " من أجل إقصاء الآخر واستئصاله من الوجود. فتجد نفسك أمام " باندي " ديمقراطي..
للباندي إعلاميّا أو خبيرا أو سياسيّا ملامح مشتركة: سرعة الانفعال والشّراسة واللّهجة غير المهذّبة وغياب الحياء والاستهتار والعبث بالقيم والتعرّي الفاضح للذّات الوقحة.
وإذا كان " الباندي " في المخيال الشّعبي لدينا هو ابن الأحياء الشّعبيّة وهو عادة الفرد الدّنيء المشين في مظهره المارق عن القانون المعتدي على القيم في سعي إلى تحطيمها فإنّ " البانديّ " كما نراه اليوم أنيق متعلّم وسيم وصاحب جاه لكنّه ما إن يتكلّم حتّى تفيض عنه ثقافة " البانديّة " المتأصّلة في الذّات والتّي تخلّقت عن فوضى القيم والمفاهيم وعن عهد استوت فيه الأضداد فكلّ شيء عاديّ: السّرقة والقتل والتّعذيب والنّهب والتّهريب .. وكلّ شيء له مبرّراته وأسبابه وكلّ شيء مشروع مادام يخدم المصلحة.
هذه الثّقافة التّي استبطنها التّونسيون عن عهد مارس كلّ أشكال الاغتصاب على التّونسيين حتّى أصابهم الهدر وتوارثوها نجدها اليوم ممارسة رائجة داخل " مؤسّسات " إعلاميّة وسياسيّة وثقافيّة محكومة بقوى المال وهي تمارس هرسلتها على العقول وتغتصب القيم وتهدر الأرواح وتسرق المعاني ولا تجد حرجا في ما تفعل.
هذا السّلوك الذّي يفترض أن يقاومه التّعليم والثّقافة نجده يقتحم أيضا التّعليم والثّقافة فأنت قد تجد نفسك في قسمك أحيانا أمام تلاميذ " بانديّة " تشرّبوا من هذه الثّقافة حتّى امتلأوا بها وفاضت عنهم في سلوكات العنف والعدوانيّة وغياب أدوات التّواصل الرّاقي مع الآخر.
أمّا عن الثّقافة ف " بانديّة " الثّقافة لم يتركوا المجال للمثقّفين الحقيقيين المرتوين بجماليّة الاختلاف والأصوات الممتلئة بالمعنى كي تقاوم هذه العقليّة التي تقوم على إقصاء المختلف واحتكار الميدان كما يحتكر أيّ " باندي " موقعا في " حومته " حيث يؤيّده أنصاره بالحجارة والعصيّ لإبعاد الغريب والدّخيل.
وسط كلّ هؤلاء تاهت الجميلة التّي تنتظر قدوم " السّحرة " الطيّبين ليساعدوها على التحرّر من سلطة " البانديّة " الجدد والقدامى كي ترقص رقصة الفرح والحبّ والحريّة.
لكنّ الزّمن لم يعد زمن السّحر.. هو زمن العمل والفعل والتّفكير الحرّ.. وهو زمن يحتاج فاعلين قادرين على مواجهة انهيار القيم والمعنى والتّأسيس للقيمة المحرّرة للإنسان.. من توحّشه و" بانديّته " أوّلا..