لم يبق شيء. سقطت المبادئ والمثل وأسطورة التضحية والذّكريات المشتركة وليالي السّجن وحكايات الجلّاد والرّعب المقيم. صارت سرديّات قديمة تتآكل في الذّاكرة وتحضنها الكتب والرّوايات. انتهى وقود النّضال كما ينتهي وقود نجم قديم نفذ حديده فتداعى وانكفأ على نفسه. هيمنت الغنائميّة وهفت النّفوس إلى المواقع والمناصب فصار حديث التّضحية أغنية قديمة تثير الضّحك أحيانا وصار التنازل ضعفا ومسخرة.
لا أحد يتنازل لأحد في عقيدة الغنائميّة الجديدة. الوطن أضحى حكاية ركيكة لا تقنع أحدا. لم لا تتنازل أنت من أجل الوطن؟ لقد ضحّيتُ في الماضي بما يكفى. نلتَ أنت نصيبك أمّا أنا فلم أنل بعد؟ بهذه الصورة الكاريكاتورية تفكّر الأغلبية.
في هذه اللحظة تنكشف أوهام كثيرة: هل كان نضالا من أجل الوطن؟ من يستطيع أن يقنعنا بذلك الأن؟ وهل كان نضالا من أجل الحريّة أم من أجل تسلّط جديد نجد بعض بوادره في صورة الدّكتاتور الكامنة داخل الزّعامات العديدة التي لا يمنعها عامل السنّ من التّعبير عن هوسها بالسّلطة؟
من يستطيع أن يقنع مواطنة مثلي تشاهد صراعات التموقع بين الجميع يمينا ويسارا بأنّهم يفكّرون في مصلحتي أنا التي تطلب وطنا عادلا ما استطعنا تعيش فيه دون شعور بالحيف ما استطعنا أيضا؟ وطن يشعرني بالراحة ولا أرى فيه أشباح المافيات في نومي ليلا؟
لم يبق شيء. غير شعور مهيمن بعدم الثقة إلّا نزر قليل. وبغياب الأفق في الحاضر بعد أن برعت الأحزاب في إعادة إنتاج القديم داخلها: انتهازيّة ووصوليّة وعقليّة نفعيّة وزعامتية بلا جمهور. لا شيء جديد. وكلّ الماضي سيصير شبيها بالذّكريات التي يرويها المجاهد الأكبر عن بطولاته في مقاومة الاستعمار ولن يصدّقكم الكثير لأنّكم خذلتم الكثير.
سيذكركم الأحفاد كما نذكر الآن رؤساء الشُّعَب ومناضلي الرّعيل الأوّل والثاني والثالث والأربعين ألف مخبرا. بلا فخر وبكثير من السخرية والرّغبة في النسيان.
وستسير الأمور كما تفرضها قوانين الطبيعة: انتهاء ما لا يتطوّر. انتهاء ما لا مستقبل له. وسيكون المصير كمصير نجم بعد السوبرنوفا. انفجار تتيه إثره الشظايا ولا تعود أبدا كما كانت. لن يكون بعثا.
انتهت أسطورة البعث. بل موتا لا يعود بعده القديم يعقبه ظهور الجديد الذي نريد. الجديد الذي سيبنيه الجيل الثامن ذات يوم من انصهارات التحوّلات العميقة القادمة.
وسيحتاج ذلك زمنا كثيفا. يتطلّب أن تفوت هذه الطبقة السياسية. كما يطير غلاف النجم القديم. إثر الانفجار.