لا يمكن لعالم تونسي أن يحصل على جائزة نوبل إلا إذا تحرّر من معاقل العبث والفوضى التي نغرق فيها وانتمى إلى مدائن الديمقراطية في نزوعها المستمرّ إلى فتوحات جديدة. ذلك أنّ الديمقراطيّة وخاصّة الديمقراطيّة الأمريكية، على كلّ ما يمكن أن نقوله في نقد الديمقراطيّة الليبيراليّة المفتقدة إلى درجة عالية من العدالة الاجتماعيّة والمحرّرة مطلقا للإرادة الفرديّة ولنزعات الهيمنة، هذه الدّيمقراطيّة وفي إطار إطالة ديمومتها وتجاوز مآزقها تقدّم نموذجا في قبول المختلف وتبنّيه واستنباته داخل التركيبة الأمريكيّة القائمة على جدل الوحدة والتوّع، وهو ما يفسّر دفاع الأمريكيين عن الدّيمقراطيّة بعد الموجة الشّعبويّة.
فوز العالم التونسي بجائزة نوبل ملأني بالأسئلة عن الفضاء الشعبوي واللّاديمقراطي المهيمن اليوم في واقعنا وعن إمكانيّة إنتاجه لمثل هذا العالم. يبدو الأمر مضحكا وعبثيّا ذلك أنّنا وإلى حدّ الساعة ( العقد الثالث من القرن العشرين ) مازلنا نمارس العداء المتبادل إزاء من يختلف عنا بدرجات مختلفة ( عرقا دينا لغة فكرة عقيدة ) ومازلنا نمارس النّفي والقتل المعنويّ وهي مناخات موبوءة لا تنتج علماء ولا مفكّرين ولا إنسانا سويّا، ومازالت فكرة الديمقراطيّة غريبة عن " العقل التونسي " ونحن نحتفظ بإرث ثقيل من تاريخ القبيلة وعنف الاستبداد.
مأساتنا استمرّت منذ قرون رغم تجربة ديمقراطيّة كان بإمكانها أن تؤسّس لمشروع مجتمعيّ جديد يؤمن بالمعرفة أوّلا. لكن ما حدث هو إغراق البلاد في الفوضى والتّسطيح والعنف السياسي وسط عجز الدّيمقراطيين عن الدّفاع عن الدّيمقراطيّة.
وربّما لأنّ ديمقراطيينا بهم هشاشة من نشأ وسط الاستبداد، فانشغلوا بتحطيم بعضهم البعض بدلا من البناء، أو لأنّ الأجهزة الصّلبة ظلّت تحارب فكرة الدّيمقراطيّة التي تخيفها، فكانت الفوضى سبيلها إلى ذلك، أو لأنّ النموذج كان خاطئا من البداية، أو موجّها، أدّى الأمر إلى حدوث الإعصار الذي جرف كلّ شيء: مؤسّسات الدّيمقراطيّة وهيئاتها وبرلمانها ودستورها.
لقد أغرق الإعصار كلّ ما بنته الأيدي الديمقراطيّة المرتعشة. ولم يكن ذلك متاحا إلّا بفضل صانعي الفوضى وقد كانت عبير سيّدة الفوضى التي مهّدت بفضل مجهود عظيم قامت به في تعميق التصدّعات والإقامة بين الشّروخ لإنهاء تجربة طريّة لم تكن تحتمل كلّ هذا العنف.
لقد كان بين سيّدة الفوضى وسيّد الأعاصير تناغم خفيّ يشبه ما نجده في سمفونيّات الموت حين تتناغم المتناقضات للدّفع نحو النّهاية المطلوبة. هكذا تمّت تهرئة القيم الدّيمقراطيّة وتوليد النّفور في النّفوس منها إلى حدّ أنّ النّاس تمنّوا الإعصار. ولم تكن أيدي الدّيمقراطيين بريئة من دماها. لقد سالت دماء الدّيمقراطيّة أيضا بسبب ديمقراطيين بلا ديمقراطيّة، وهو ما يجعل النّظر إلى المستقبل مفزعا.
سيطلق سراح عبير ممّا لا شكّ فيه، ولعلّه القرار الأسلم، ولكن سنظلّ في المناخ الشعبويّ وداخل الفوضى التي تثيرها الأجهزة بأدواتها وممثّليها عاجزين عن إنتاج إنسان سويّ قادر على التّفكير والتّحليل والتّعبير، فما بالك إنتاج علماء يحقّقون الإضافة للإنسانيّة.
مع ذلك، فرحة بفوز نصف التونسي نصف الأمريكي بالجائزة. إنّه المجد الحقيقي.
مستاءة من اعتقال سيّدة الفوضى: إنّه مجدها المزيّف.