الوصول من الزهراء إلى المسرح البلدي بشارع الثورة اقتضى قرابة ساعتين. طابور السيّارات الممتد على مسافة كيلومتر في الطّريق السّريعة يتقدّم ببطء جرّاء غلق الطريق بالحواجز الحديدية وترك ما يسمح بمرور سيارة فقط. مع فرق شرطة تتولى المراقبة والإيقاف. شارع الثورة عند الوصول وجدناه مغلقا من كلّ الجهات بفرق من البوليس وكان لا بدّ أن نطوف بالمكان عن بعد ومن خلال الأنهج والشوارع المجاورة حتى نجد مدخلا للوصول إلى الوقفة الاحتجاجيّة التي وصلتنا شعاراتها عن بعد لكثافة الجماهير فيها.
قبل الدخول يستوقفك الحاجز البوليسي ليفتّش حقيبتك. مئات الشرطة تمّ تسخيرهم اليوم لمحاصرة الوقفة عن بعد. جدران بوليسية مكوّنة من فتيان وفتيات أتأمّل وجوههم فأجد حيادا مطمئنا بعض الشيء. لكنّ العدد الكبير والمضايقات ذكّرني بأيّام نوفمبريّة وبدولة بوليسيّة كانت أحد دواعي خراب الدولة والإنسان هنا.
اللافت العدد الكبير للفتيات بالزيّ الأمني في مداخل الطرقات. واجهة بلّوريّة تذكّر أيضا بالواجهات البلّوريّة للدولة النوفمبريّة التي تسوّق للعالم الصورة الحداثية للمرأة. كنت أحتاج التطواف بنفسي وألّا يروي لي أحد ما أرى حتّى أمسك ببعض ما نعيش.
أمام المسرح كان الأحمر يرفرف. ودماء الشهداء تلوّن الشّعارات. تنوّع الحاضرين لافت، ولكنّ هناك حضور هام لجمهور النّهضة. جمهور حقيقي لا يمكن توهّم انحلاله. غاضب على ذاته وعلى الآخر. واللافت أيضا أن تصبح مهمّة الدّفاع عن الديمقراطيّة مهمّة جمهور النّهضة أيضا. في غياب بعض قوى اليسار والقوى الديمقراطية التي يفترض أن تخوض معركتها اليوم أيضا. وأن تتجاوز جراحها الانتخابية. وتايخها العدائي الذي لا يعني التونسيين.
اللافت أيضا أنّ جهور "الفقراء" هذا الجسم الهلامي الذي يدّعي الرئيس أنّه النّاطق باسمه والمالك لأمره هو جمهور مفتّت يتوزّع بين حساسيات سياسية متنوّعة. وبعضهم لا انتماء له غير الانتماء إلى الحلم. إلى الخبز والحريّة. إنّهم أوّل من ينزلون إلى الشوارع ويواجهون قوى الردع. دون خوف ولا تردّد. فلا شيء لديهم ليخسروه.
أحدهم كان يصرخ في وجه قوى التدخّل التي تقف أمامه كجدار صدّ: سيعود إليكم بن علي في وجه جديد. إنّهم ليسوا " ثوّار اليوم " بل جرحى الماضي حين كانت الأجساد تعلّق في القباء والنساء تغتصب. لا شيء يداوي هذه الجراح حين تثار.
والأهم في ما حدث اليوم: الإصرار على إنقاذ البلاد من المجهول والاستبداد. وتقارب بين المختلفين والمثقّفين قد يلد جسما سليما يعد بمواكب من أفكار ورؤى.