مثّل إدوارد سعيد فتحا معرفيا كبيرا في الدراسات النقدية للاستشراق باعتباره موقعا"غربيا" لانتاج المعرفة وتحويل تلك المعرفة"المركزية" الى أداة للهيمنة و التسلّط على "الأطراف" التابعة . لم يكن الشرق فقط مجرّد موضوع معرفي ، أو فنتازمات رومانسية، وإنما كان كذلك مجالا جغرا-سياسي مارس فيه "السّيد" المستعمر لذّة "إخصاب" موضوعه الأنثوي بأديانه وقيمه و تكنولوجيته و فلسفاته و "رؤاه الوجودية". قد يكون الدافع الصريح لأن يطفوَ صاحب الاستشراق إلى سطح وعيي هو انبثاق خطابات "استشراقية" غير "معيارية" ولا نسقية ، وهي خطابات لا تنطلق هذه المرّة من "المركز" بل تتأسّس في "هوامشه" التي مازالت تابعة. فأغلب النخب المعترف بها تسعى الى"التثبيت النفسي" والمؤسّسي لما يمكن تسميته بالمصطلح النفسي ب"وضعية الرضّع الدائمين". وهي لا تريد الاعتراف ب"بلوغها" الرشد العقلي، واستغنائها عن ابتسامة الأب ورضاه، ولا تقبل أيضا بمفارقة وضعية "الاعتماد" الكلّي -ذي الطبيعة المرضية- على "آبائها" الذين يراقبونها-وتنتظر اعترافهم بها- من الضفة الأخرى.
إننا أمام انبثاق "مثقّف عضوي" من نوع جديد-لا مكان له في أدبيات غرامشي- ، وفي محضر "مستشرق" لا يمكن أن يجد مكانه بسهولة في تصنيفات سعيد ونماذجه النظرية. أو لنقل إننا أمام نموذج هجين هو بين المستشرق-من حيث الوظيفة والأدوات المعرفية والعلاقة العضوية باستراتيجيات الهيمنة الأجنبية- والمثقف العضوي-من حيث ادعاء المبدئية والخطاب التنويري والتطابق مع من يمثلهم أو يدعي تمثيلهم-. كان مثقّف غرامشي العضوي جزءا من شعبه، من طبقته، و لكن مثقف بلاد "النمط المجتمعي" لا يظهر في النقاش العام إلاّ جزءا من شعوبهم ومن ثقافتهم، بل جزءا من لغتهم الاستعمارية ذاتها وطرائقها في وسم/وصم العالم بأشيائه وذواته. إنه بمعنى من المعاني ، التعبير الأكثر صفاءً عن واقع ثقافي هجين" مترسّب" من المرحلة الاستعمارية، ومن امتداداتها في المراحل التكوينية لبناء الدولة الوطنية البورقيبية وما بعدها.
لكنّ هذا الاغتراب عن التراث الجمعي-الا في مستواه الفولكلوري- ، يتمّ تعويضه "نفسيا" وفكريا، بالارتباط "الهوسي" بالغرب باعتباره مرجعا نهائيا وأوحد لإنتاج المعنى في التاريخ. ويتم ذلك من خلال جملة من "التماهيات" المطلقة معه. ويؤدي تفعيل تلك التماهيات وتضخيمها في فترات الأزمة "البنيوية" أو الانتقالات المفصلية- كالثورات مثلا- دورا كبيرا في إحساس هذه النخب بالرسالة" الطليعية" التي تمارسها باعتبارها جزء "عضويا" من نخبة "كونية" يتم الربط بين المنتمين إليها بالعديد من الرموز والعلامات التي يقع توجيهها أساسا ضد كلّ ما /من يُمثّل غيرية "مطلقة" ل"مثال الأنا" أو للأنا "المثالي" كما تتمثّلهما النخب التغريبية بصرف النظر عن منحدراتها الايديولوجية الأصلية. ولا شكّ في أنّ "الإسلام السياسي"- باعتباره المنافس السياسي الأبرز- واليسار الراديكالي -المتهم بالفوضوية والطوباوية- يُعطيانها ما تحتاجه خطاباتها لتجسيد من تعتبرهم "الشرّ المطلق" أو "الخارج المطلق" الضروري لأمثلة Ideàlisation صورة "أناها" الخيّرة، المنفتحة، الانسانية، منتجة المعنى، مقابل شيطنة Diabolisation الإسلامي واليساري الراديكالي باعتبارهما تجسيدا لكل ما يضادد "الخير المطلق" أو ينفيه.
إنّ البعد "العضوي" في مثقّفنا "التغريبي" هي نوع من الايهام الذاتي ، وهي أقرب إلى "الانتساب المتخيل" منها الى الانتماء الحقيقي، فهو يعيش وهما "ذاتيا" بأنه "ندّ" و "نظير" للمثقّف الغربي الذي "ينوبه" في تونس. فيتوهّم الدفاع عن مصالح "الطبقات المهمّشة" والفئات المحرومة ويجسد الاستحقاقات الحقيقية للثورة، والحال أنه لا يكاد يتخارج عن موقع التلفظ "البرجوازي" المديني ولا عن مصالح الدولة العميقة التي قامت عليها الثورة. ومن أجل ذلك، فإنّ هذا "المثقّف" الذي يحمي مصالح الديموقراطية"البرجوازية" ونظامها القيمي ومنوالها التنموي الاقتصادي ويدعي في الوقت ذاته أنه ضدها أو أنه تجاوزها الجدلي، يعيش استعلاء معرفيا واجتماعيا على كلَّ من صدر عن مرجعية فكرية مغايرة، فيعتبره كائنا "رجعيا" –إن كان إسلاميا- أو يصمه ب"الفوضوية" و"الشعبوية" إن صدر عن رؤية ماركسية تربك المقاربات الثقافوية في إدارة الصراع. وهو في الحالتين لا يستحقّ إلا مساحة واقعية ونصّية صغيره ومهمّشة لا يمكنه فيها أن يتجاوز وضعيته الاستشراقية الأصلية، أي لا يمكنه أن يتجاوز كونه"موضوعا" للكتابة والهيمنة، موضوعا للتعاطف "المحسوب جيدا" أو للشيطنة. وعلى هؤلاء ألأّ يظهروا أي نزوع نحو النقض الجذري لكل الخطابات التي تقولهم أو تحاول "تثبيتهم" ضمن صورة نمطية عامة. فالتحرّر "الخطابي" مرفوض ومدان، لأنه في الحقيقة قد يكون مبتدأ لخبر خطير تخشاه كل الأنساق المهيمنة في أشكالها المركزية أو الطرفية التابعة: بروز مواقع لانتاج خطاب"مقاوم"(خطاب يساري أو إسلامي)، وهو ما يؤذن بفقدان المثقف التغريبي الحق في احتكار قول"الحقيقة الجماعية" الجماعية وترسيخ رأسماله الرمزي والمادي بها.
لقد جمع الكثير من "مثقفينا" التغريبيين، بين موقع المستشرق "التقليدي" في نظرته الاستعلائية للموروثات الجمعية التي يتعامل معها بمنطق استعماري، وبين موقع المثقف العضوي "التغريبي"، أي المثقف الذي يعيش واقع الانفصال عن شعبه-وليس طبقته فقط- مع ادعاء تمثيله بصورة احتكارية. ولا شك أن ما يوحّد بين هاتين الصورتين "المثاليتين"(بالمعنى الفيبري) هو السعي إلى تغذية الإحساس بخطر الإسلام السياسي أساسا (بل التخويف من الإسلام ذاته أحيانا باعتباره ضديدا لفلسفة الدولة الحديثة) وأحيانا التخويف من الفوضوية اليسارية – حتى عندما تكون اليسارية مجرد التذكير بالأساس الاقتصادي للصراع في ظل الردة النسقية عنه-. ويكفي أن ننظر في مخرجات الإصلاح التربوي الذي اشتغلت عليه أفضل العقول"التغريبية" لنعثر على صورة جلية لبنية العقل التغريبي التونسي. فالإحالة على العروبة والإسلام لا تصل حتى إلى 2 % من مجمل الإحالات، أما الإحالة على التراث الوطني والانساني فتكاد تنحصر في مضامين ليبرالية تغريبية بعيدا عن الطاقة التحررية الكبرى لليسار الاجتماعي أو للاهوت التحرير المنبثق منه...وتلك قضية أخرى.