انتهت زيارة رئيس الجمهورية للقاهرة، لكن الجدل حولها لن ينتهي قريبا، وهذا أمر طبيعي في ظل الانقسام الحالي، ولكن أيضا في ظل الأداء الديبلوماسي الضعيف للرئيس، وهو في الحقيقة أمر يتجاوز هذه الزيارة ليصبح السمة المشتركة بين كل الزيارات التي أداها للخارج لحد الآن.
وضع المصريون كل الظروف الممكنة للإنجاح الزيارة من وجهة نظرهم، ولإعطاء الرئيس قيس سعيد بروتوكوليا ما يرضي نرجسيته. ومثل الفرنسيين تماما أثناء زيارة قيس سعيد لباريس، فقد تحصل المصريون على أكثر مما أملوا. لقد تحصلوا على تصريحات إطلاقية، ووعود ديبلوماسية بلا حدود، وفي كل المواضيع التي طرحت، بل وحتى في المواضيع التي لم تطرح. مثل الفرنسيين تماما قبل بضعة أشهر.
هناك إنطباع يتأكد زيارة بعد أخرى، وهو أن الرئيس لا يعترف بشيء اسمه وزارة الخارجية، لا بملفاتها ولا بخبراتها ولا بآرائها. أشك فعلا أن الرئيس يقرأ الملفات التي تعدها الوزارة، وأنه يستمع إلى أي آراء في الموضوع الخارجي. النتيجة لا يمكن أن تفاجئ أحدا: زيارات للزيارات، وكرم قيسي بلا حدود، والورطة تلو الأخرى.
لنحلل بعض جوانب الرحلة المصرية. عندما تنظر في بلاغات الرئاسة، تلاحظ أن تسعة أعشار الزيارة كانت ثقافية، بين الموسيقى والآثار والتاريخ الحربي. هذا أمر درسه المصريون بعناية. رسميا، وإذا ما اقتصرنا على ما هو سياسي بحت، كان يمكن ألا تستغرق الزيارة سوى يوم واحد. ولكن كل الغاية من الزيارة هنا: التأثير النفسي والعاطفي على قيس سعيد. بعدها يمكن الحصول على كل شيء، بل على أكثر من كل شيء. حصل ذلك في الرحلة الفرنسية أيضا، وسيظل يحصل طالما واصل الرئيس العمل بنفس الطريقة. واعتقادي أنه سيواصل العمل بنفس الطريقة. ليس هناك مؤشر وحيد يقول العكس.
هناك شلل كامل في علاقة الرئيس بوزارة الخارجية. ومنذ عمليات الإقالة المتسرعة وغير اللائقة لعدد من الديبلوماسيين، قضى الرئيس وديوانه على أي رغبة في المبادرة لدى موظفي الوزارة، من أعلى الهرم إلى أسفله. لا أدري كيف يفهم الرئيس تمثيل تونس للمجموعة العربية والإفريقية في الأمم المتحدة، وإن كان يفهم هذا التمثيل قيادة وزعامة، أم تنسيقا. تونسيا، الموقف الذي عبر عنه قيس سعيد بمساندة مصر في نزاعها مع أثيوبيا، هو موقف صحيح، وهو الموقف الطبيعي بين شعبين شقيقين متضامنين.
لكن التصريح من القاهرة بأن تونس ستتبنى المواقف المصرية (دون استثناء) هو تصريح سيتسبب في صعوبات كبيرة مع المجموعة الإفريقية في الأمم المتحدة، التي لا ترى نفس الرأي، مما يبدو أنه سيحكم بالفشل منذ الآن على المساعي التونسية في نيويورك تجاه الموضوع الأثيوبي بالذات. تقليديا، يتم التعبير عن مواقف المساندة التي تطرح إشكالات معقدة تتجاوز النوايا التونسية، بطرق أخرى أكثر تواضعا وتحفظا ونجاعة. أشك أن موقف الديبلوماسيين التونسيين هو هذا بالذات، ولكن طالما استمر الرئيس في عدم الإستماع إليهم، فإن المشكل سيتفاقم.
لنترك مصر مجددا، ولننظر للظاهرة الديبلوماسية القيسية الفريدة التي تتطور أمام أبصارنا: رئيس لا يعد زياراته في الحد الأدنى، وتغلب واضح لوجهات نظر الدول المستضيفة، مع تضخيم في الإحتفاء به، ثم تأتي النتائج كما توقع الطرف المضيف، أو أكثر قليلا. القطيعة مع الحكومة موضوع آخر، فحتى وزير الخارجية لا يتواصل مع باقي زملائه الوزراء فيما يبدو. فعليا، لن يكون لهذه الزيارة أثر في الوثائق الرسمية، بمعنى أنه لن يتبعها تطبيق للأشياء التي اتفق عليها، رغم ندرتها.
إن الموازنة بين المحاور ليس سيئا في المطلق. لكن قيام كل السياسة الخارجية على فكرة الموازنة بين المحاور أقل بكثير مما تعنيه سياسة خارجية لدولة تحترم نفسها. السياسة الخارجية مضامين، ثم تأتي الجوانب البروتوكولية. أما أن تكون كل الزيارة بروتوكولات، فهذا أقل بكثير مما كنا نأمل. حصل ذلك في زيارة باريس وها هو يتكرر في زيارة القاهرة.
هل يعرف أحد شيئا عن نظرة قيس سعيد للمسائل الإقليمية والدولية؟ لا للأسف. ربما كانت للرجل نظرة ورؤية، لكن الأكيد أنه لم يفصح عن شيء منها، وأننا لا نعرف عنها شيئا أيضا. يكفي أن نتذكر المقاربة العبقرية باعتبار مجلس القبائل الليبية هي الطرف الأساسي في حل الأزمة الليبية، حتى نفهم بعض ملامح هذه الرؤية.
غياب رؤية مشكلة، لكن استمرار غياب هذه الرؤية كارثة حقيقية. تدافع الدول عبر ديبلوماسيتها عن مصالح شعوبها، فإذا لم تكن هناك مصلحة، وإذا كان ذلك الشعب مكتفيا بنفسه، فلا حاجة له للديبلوماسية. نحن نحتاج اليوم ديبلوماسية، وهذه الديبلوماسية تحتاج رؤية تقوم على الدفاع على المصالح التونسية. كلاهما اليوم غير متوفر للأسف.
لا أدري إن كان صراع قيس سعيد ضد الأحزاب، وضد النهضة تحديدا مبررا كافيا لغض النظر عن هذه النقائص الهامة. فيما يخصني، أجد أن هذه نقيصة كبيرة، وأجد أن أداء الرئيس الديبلوماسي مخيب جدا للآمال، لكنني على العكس من خصومه، لا أتمنى له الفشل، بل أريده أن يعي ما يفعل، وأن يفهم نقصه، وأن يستفيد من وزارة الخارجية مثلما قد يفعل أي رئيس.
لسوء الحظ، ومهما يكن مدى المناكفات المحلية والانقسامات الوطنية، فإنها لا يجب أن تحجب عنا حقيقة أرجو أن تتغير، وهي أن نقصنا في الموضوع الديبلوماسي أمر لا شك فيه، وأنه بدأ فعلا في تبديد القليل المتبقي من رأسمال الاحترام الذي اتسمت به الديبلوماسية التونسية منذ حوالي السبعة عقود.
أقول ذلك بغض النظر عن أي مضامين طرحت في هذه الزيارات، وأي انعكاسات لها على المستوى الداخلي. أتحدث من منطلق ديبلوماسي فحسب. يمكن تدارك ذلك وإصلاح الأخطاء، ولكنني أشك، للأسف، أن الرئيس واع بذلك أو أنه يريده فعلا. هذا مؤسف فعلا.