لعلّ أكثر ما شدّ انتباه المتابعين للشأن السياسي التونسي في اختيار الرئيس سعيّد لأحمد الحشاني لرئاسة الحكومة خلفا لنجلاء بودن، كان انتماؤه إلى عائلة مصنّفة يوسفية، حيث أُعدم والده صالح الحشاني بعد محاولة الانقلاب على بورقيبة المكتشفة في آخر شهر من سنة 1962. الحقيقة أن ذلك يدلّ، بغض النظر عن حقيقة هذا الانتماء وضرورة تنسيبه، على أن الذاكرة الجمعية التونسية لا تزال متأرجحة بين طرفيْ الصراع الذي قسم البلاد في منتصف خمسينات القرن الماضي بمناسبة الخلاف بين الزعيمين بورقيبة وصالح بن يوسف حول تقييم اتفاقيات الاستقلال الداخلي، وانفجار هذا الخلاف في شكل نوع من الحرب الأهلية التي انتهت بالقضاء على المعارضة اليوسفية واستفراد بورقيبة كليا بالحكم. نعود في هذا النصّ إلى بقايا هذا الصراع وتمثلاته في المخيال السياسي التونسي منذ ثورة 2011، وتطبيقاته على واقع الصراع السياسي وتوزيع السلطة عبر الانتخابات والمؤسسات المحدثة، وصولا إلى السلوك السياسيّ للشعبويّة التي يقودها اليوم قيس سعيد إزاء هذا التمزّق التاريخي وحرصه على توجيه إيحاءاته بما يخدم سياسة الهيمنة لديه.
بورقيبة وبن يوسف: صراع حول ماذا؟
إنّ عرضا تاريخيا للصراع البورقيبي- اليوسفي أمر يتجاوز الغاية من هذا النص. فالهدف هنا هو التعرّض للتمثلات، لأن تلك التمثلات هي التي تطبع المخيال السياسي التونسي حتى اليوم وتجعل الانقسامات المنسيّة تعود في كل مرة بشكل مبتكر. إنّ التمثلات ليست بالضرورة الوقائع، ولكن ما يحكم الصراع السياسي عندما يعود لإحياء السرديات هي تلك التمثلات بالذات، وليس الوقائع. فالسّردية جزء من الإيديولوجيا، بل عمادها الأساسي. لذلك فإنّ صناعة سردية ما، وتعهدها بالتحسين، وجعلها أساسا لفهم الانقسامات، هي حاجة أصيلة في حقل السلطة السياسية. هناك لدى السياسيين وهم يتصارعون حاجة أكيدة لغرس جذور أبعد فأبعد في كل مرة، ذلك أن الجذور تصبح هنا هي الشرعية الحقيقية التي تتجاوز ما هو مؤسساتي وحديث.
إنّ كثيرا من الأفكار حول الصراع اليوسفي-البورقيبي هي من هذه الزاوية تمثلات. من ذلك تصنيف صالح بن يوسف كزعيم للتيار العروبي، وللشق الثوري في الحركة الوطنية، وكذلك تصنيف بورقيبة كقائد للتيار الانتهازي المتذيل للغرب والتابع للاستعمار، جميعها ليست إلا تمثلات صنعت معظمها الدعاية السياسية. صنعت البروباغندا الناصرية منذ منتصف الخمسينات جزءا كبيرا من هذه الصورة، بل إنّ كثيرا من الألقاب المهينة التي لا تزال مستعملة في حق الزعيم بورقيبة إلى اليوم هي ألقاب نحتتها المخابرات المصرية نفسها إبّان التوترات التي انفجرت بين النظامين في تونس والقاهرة من عام 1955 إلى حدود 1967. كان الأمر يتعلق في الواقع باصطفاف مصلحة سعى فيه الزعيمان إلى حشد كلّ عوامل القوة الممكنة للفوز في الصراع. حاول كل زعيم اغتيال غريمه مرات، ولكن السبّاق كان بورقيبة. هل انتصر بورقيبة على اليوسفية بمساعدة الفرنسيين؟ بكل تأكيد. هل كانت هناك مجازر ضد اليوسفيين؟ بكل تأكيد أيضا. هل ترك ذلك جروحا ؟ نعم، وإلى اليوم.
كان الزعيم صالح بن يوسف أحد أبرز وجوه الحركة الوطنية في النصف الثاني من الأربعينات، الفترة التي كان فيها بورقيبة لاجئا في القاهرة. كما كان بن يوسف مهندسا حقيقيا للعمل السياسي الوطني، استطاع تحقيق عملية تشبيك عبقرية بين القوى الوطنيّة لم تستثنِ حتى العرش الحسيني من المشاركة في جهد التحرّر من الاستعمار. هذا أمر لا يعترف به أنصار بورقيبة إلى اليوم، حيث لا يزال الرجل في نظرهم قائد “فتنة” وعميلا للمصريين. في الحقيقة لم يصبح صالح بن يوسف عروبيا إلاّ بعد انقلاب الضباط الأحرار في مصر. لقد كان ليبراليا تحصّل على نفس التعليم الفرنسي الذي ناله بورقيبة، بل إنه شارك كوزير للعدلية في حكومة الإصلاحات بداية الخمسينات، وواجه بعنف إضرابات طلبة جامع الزيتونة، وكان قريبا من العرش الحسيني. خليط سياسيّ فريد لم يتسنّ لبورقيبة نفسه.
هل كان بورقيبة مؤمنا بضرورة بقاء تونس ملتصقة بالغرب وسائرة على منواله حتى بعد الاستقلال؟ وهل كانت موافقته على استقلال منقوص في 1955 جزءا من تصوّر يقوم على أن الاستقلال يقع تحصيله بموافقة الفرنسيين، وأن دور الكفاح الوطني هو إقناع الفرنسيين بضرورة أن يكونوا شركاء في المرحلة التي ستأتي فيما بعد؟ هذا صحيح إلى حدّ كبير، بل إلى حدّ أن بقية الزعماء الوطنيين بما فيهم الزعيم صالح بن يوسف كان مقتنعا به حتى خريف 1955.
في المقابل، كان صحيحا أيضا أنّ صالح بن يوسف أصبح منذ منتصف الخمسينات جزءا من تحالف صاعد رعته القاهرة وضباطها الأحرار: بناء قوة إقليمية جديدة معادية للاستعمار وللغرب تكون نواتها مصر، تشمل الحركتين الوطنيتين في تونس والجزائر على الأقل. إنّ الخطاب المعادي للغرب ولفرنسا بالذات قد أخذ لدى المصريين منحًى تصاعديا في سياق العدوان الثلاثي، فأدى ذلك من ضمن ما أدى إليه، إلى تأثير واضح على خارطة الزعامات الوطنية في تونس وإلى اختيار صالح بن يوسف من ضمنها كممثل لهذا التوجه. قبل ذلك، كانت الخلافات بين الزعيمين عادية لم تصل أبدا إلى درجة القطيعة، بالرغم من تخوف بورقيبة من النفوذ المتصاعد لصالح بن يوسف على الحزب طيلة غيابه عن تونس. صراع نفوذ إقليمي اختار فيه كل زعيم الصفّ الذي يقف فيه وينافح عنه، وتحصل بموجبه على قدرات وظفها في الصراع الناشئ بينهما، وقسمت فيه البلاد بعنف بين أنصارهما، وحصلت مآسٍ ومجازر تبعها تنكيل شديد باليوسفيين وعائلاتهم عندما استقر الأمر لبورقيبة.
اليوسفيّة كسردية للمعارضة
عندما بدأ بورقيبة في الاستحواذ على كلّ السلطات وفي ترسيخ نظام حكم فردي وكذلك في توجيه مؤسسات الدولة الناشئة نحو الانسجام مع رؤيته للعلاقة بالغرب والشرق، أي في التحديث على أساس المثل الغربية، لم يكن أمام معارضيه في الغالب سوى الانكفاء إلى سردية غريمه المغدور صالح بن يوسف. طيلة حكم الزعيم بورقيبة الذي تواصل إلى 1987، كانت كلّ المعارضات فيما عدا المعارضة الليبرالية التي أسسها رجال من نظام بورقيبة نفسه، تنتسب للسردية اليوسفية. لم يكن ذلك خاصا بالعروبيين فقط، حيث تشرب كل من اليساريين والإسلاميين أيضا، وإن بطريقة انتقائية، مضامين التمثلات اليوسفية. أخذ العروبيون عن اليوسفيين الدفاع عن انتماء عربي شرقي لتونس، وأخذ اليساريون فكرة المعاداة للاستعمار والميل للمعسكر الاشتراكي، في حين ركز الإسلاميون على طابع المحافظة الثقافية. ليس مهما هنا أن نعيد التأكيد على أن مسيرة الزعيم بن يوسف، قبل أن يتبناه الضباط الأحرار، لم يكن فيها شيء من العروبية ولا الاشتراكية ولا المحافظة. بالنسبة للمعارضين طيلة العهد البورقيبي الطويل، كان تجذير الموقف من نظامه يمرّ وجوبا عبر تبنّي ما كان يبدو كنقيضه السياسي، ولم يكن هناك غير الزعيم صالح بن يوسف ليملأ هذه الوظيفة.
كان صراع السرديّتين في الحقيقة، وباستمرار، غطاءً وفي نفس الوقت مبرّرا لكثير من الصراعات الأخرى. حصل ذلك على مستوى الصراع الاجتماعي حيث ترسخت قناعة بأن نظام بورقيبة كان نظاما في خدمة الساحل إلى درجة استغلال الدواخل من أجل تكديس الثروة والخدمات وفرص الحياة بالمنطقة الأم للرئيس بورقيبة. إنّ تلخيص السياسة التنموية التي اتبعتها دولة بورقيبة في هذه النقطة ليس غير دقيق فحسب، ولكن معطّل أيضا لفهم طبيعة السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة منذ الاستقلال. في كثير من الحالات، وقع تركيب اليوسفية على التمثلات لهذه السياسة، ولكن الهدف كان تعميق مظلومية الدواخل وإعطاؤها بعدا أكبر.
بالمفهوم السوسيولوجي، لم يكن الزعيم صالح بن يوسف ممثلا للدواخل ولا للفقراء ولا للذين أصبحوا على هامش سياسات التنمية. لكنه أصبح يحمل هذا المعنى بفعل نشاط دؤوب للمعارضين الباحثين عن التجذر في البيئة الاجتماعية للدواخل. في الوقت نفسه، كان موقف بورقيبة العدائي للمناطق التي دعمت غريمه وحاربت إلى جانبه جزءا من المشكلة وليس كلها: كان هناك قصور واضح عن صنع سياسة تنمية تدمج كل المجال الوطني وتخرج الدواخل من الوظيفة الاستخراجية في الاقتصاد. لقد واصل بورقيبة، إذا ما استثنينا مجهودات وزير التخطيط أحمد بن صالح في بداية الستينات، تبني السياسة ذاتها التي سادتْ قبله والتي جعلت السواحل وليس منطقة الساحل، عصب الحياة الاقتصادية في البلاد حيث تتكدس الثروة والخدمات. في نهاية الأمر استمرت تونس في الانقسام بين تجار وفلاحين، وبين صناعيين وعمال مناجم. لسبب ما، أصبحت اليوسفية التي أسس تيارها سليل عائلة تجارية صنعت مجدها المبادلات على السواحل ومع الخارج، ممثلا لانتظارات الدواخل، حيث ينظر للغرب كعدو متحالف مع الدولة الوطنية في نهب الثروات والمواد الأولية، ولنظام بورقيبة كنتاج لتحالف بين تيار تغريبي وجهة محظية وطبقات موسرة، والاستعمار.
ثأر اليوسفية
كانت ثورة 2011 إيذانا بتغيّر عميق في التوازنات التي تحكم التمثلات السياسية للتونسيين. بدا بوضوح أنّ تراجع القوى التي استند إليها نظام بن علي إلى حين سقوطه أمر أعمق من مجرد تحوّل سياسي مؤسساتي. بشكل أو بآخر، مثل اعتصاما القصبة الأول والثاني في بداية الثورة عملية زحف للدواخل أو الهوامش على مركز الحكم ليس فقط كمؤسسات، ولكن كفضاء اجتماعي حاضن للسلطة القديمة. لم يكن قانون العدالة الانتقالية وتأسيس هيئة الحقيقة والكرامة على سبيل المثال إلا عملية ثأر من الحقبة البورقيبيّة. لذلك، فإنها ستسمح بإثارة قضايا الانتهاكات طيلة العهد البورقيبي وانطلاقا بالذات من فترة الصراع بين الزعيمين بورقيبة وبن يوسف. كانت قدرة القوى القديمة على الصمود أمام هجمة الثأر ضعيفة ومحدودة، حيث آل الأمر بالكامل تقريبا، ولكن إلى حين، لأنصار السردية اليوسفية بتفريعاتها المختلفة منذ أكتوبر 2011 تاريخ انتخابات المجلس التأسيسي الذي سينطلق في إعادة توزيع السلطة وبناء المؤسسات الجديدة وصياغة دستور جديد.
ينسى التونسيون اليوم أنّ المنصف المرزوقي الذي وصل لرئاسة الجمهورية في ديسمبر 2011 هو سليل عائلة يوسفية شرّدها بورقيبة، وأن والده الذي كان ناشطا في الحركة اليوسفية قد غادر البلاد مطاردا وأنهى حياته في المنفى المغربي، وأن المنصف المرزوقي كان يقول باستمرار أنه يوسفي. وبالرغم من محاولته تلطيف عدائه لبورقيبة طيلة السنوات الثلاث التي قضاها في قرطاج، بل وتأسيسه لمتحف خاص بالزعيم بورقيبة في مدينة المنستير في 2013، فقد كان يعتبر وصوله للحكم نوعا من تصحيح التاريخ. كذلك فإنّ انتخابات أكتوبر 2014 وتركز المنافسة بينه وبين الباجي قايد السبسي كان نوعا من إعادة إنتاج الصراع بين السرديّتين اليوسفية والبورقيبية، وهو أمر يمكن أن يوضح مدى عمقه التوزع الجغرافي للأصوات التي حصل عليها كل منهما في تلك الانتخابات. إنّ تقاسم المرشحين لأصوات الناخبين بصفة شبة متساوية خاصة وأن كليهما قد هيكل خطابه الانتخابي على إحدى السرديّتين، كان له معاني عديدة أهمّها أن الجراح التي تركها الصراع اليوسفي البورقيبي كانت لا تزال غائرة.
سيحاول الرئيس قائد السبسي مجابهة عملية “يَوْسَفَة” الدولة عبر عدد من السلوكات الفعليّة والرمزيّة: إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة موضوعيا، تمرير قانون المصالحة الذي سيعني إفلات مسؤولي النظام السابق عن الثورة من المحاسبة، وإعادة تركيز تماثيل الزعيم بورقيبة، في الأغلب على صهوة جواد، بأكثر الساحات رمزية في المدن التونسية بل وفي الشارع الرئيسي للعاصمة قبالة وزارة الداخلية. لقد أصبحت البورقيبية رمزا للاستقرار في مقابل الفوضى والثورة والديمقراطية التي أضحت شبيهة، مرة أخرى، “بالفتنة” .
لكن اليوسفية ليست إلا الإسم الذي أخذته نوازع التمرد والثورة في خمسينات القرن الماضي. قبل ذلك، لم تكن هناك يوسفية. ولكن النوازع التي جاءت لتعطيها لاحقا هذا الإسم كانت موجودة باستمرار. في تاريخ البلاد قادة تمرّدٍ كثيرون عبّروا في سياقاتِهم عمّا كان يعتمل في أعماق البلاد من ضيم وغضب. قبل قرن من اليوسفية، كان هناك علي بن غذاهم. وقبل ذلك ثورات وانتفاضات اخترقت الفترة الوسيطة، أخذت أشكالا مختلفة، حَمَلت أو حُمّلت المعاني ذاتها. صراع لا ينفك يهدأ بين البدو والحضر، تختلط فيه التناقضات الاقتصادية بالعوامل الجبائية، بسلوك الدولة والطبقات التي تتحكم في سيرها، حتى أصبح الأمر كالمتعلق بتناقض ثقافي عميق لا يمكن حله وديا.
ماذا يفعل قيس سعيد اليوم؟ اللعب بطريقة تسمح له بوأد هذا التناقض التاريخي عبر تبني سياسة مترواحة بين التمثلين البورقيبي واليوسفي. يدير الدولة بطريقة فردية وصارمة كما كان يفعل بورقيبة، ولكن بخطاب يستبطن القهر الاجتماعي والغبن السياسي الذي مثلته اليوسفية في السبعين عاما الماضية. إنّ تعيين رئيس حكومة أعدم والده في محاولة انقلابية قادها يوسفيون وعسكريون على بورقيبة لا يعني أن اليوسفيين أصبحوا اليوم في الحكم. رئيس الحكومة الجديد أقل كثيرا من أن يحكم، حيث لا يسمح له بذلك لا الدستور ولا ميزان القوى على الأرض ولا الأزمة الشاملة والخانقة وإمكانيات الفعل المنعدمة التي تعيشها البلاد اليوم. تعيين رمزي لا يختلف كثيرا عن تعيين سلفه السيدة نجلاء بودن. رسالتان متناقضتان في الظاهر ولكن بمعنى واحد: إنّ تعيين امرأة في رئاسة الحكومة قبل عامين كان يعني رمزيا أن مسار تحرير المرأة الذي بدأه الزعيم بورقيبة متواصل، بل إنه يترسخ بتعيين أول امرأة في هذا المنصب في كل البلاد العربية. أما تعيين موظف متقاعد بنفس الرتبة الإدارية لرئيسة الحكومة السابقة، أي بلا طموح سياسي ولا إمكانيات تذكر للنجاح (كسلفه تماما)، فليس هو الآخر سوى حركة رمزية يقول من خلالها أنه حساس للغضب التاريخي للدواخل ومتعاطف مع غبنها وغير معاد لسرديتها.
يسعى قيس سعيد اليوم مرة أخرى إلى التصرف في عالم الرمز، والاستئثار بالرّيع السياسي الذي يسمح به تحكمه بكل السلطات، من أجل تغيير طبيعة الانكسارات التي لا تزال تشقّ المجتمع بعمق. وبالرغم مما بدا لدى أنصار البورقيبيّة عبر هذا التكليف كاستفزاز لمشاعرهم السياسية والمناطقية، فإنّ الأمر لن يأخذ أبدا المدى الذي يتوجّس منه هؤلاء. لن يتحوّل الحكم إلى يوسفي، بل سيتعمّق في شعبويّته “السعيدية” مع استمرار العجز ذاته عن تغيير التوازنات الموضوعية التي عبرت عنها السرديّتان تاريخيا. يكفي الرجل اليوم أن يبدو في نظر مناطق الداخل وكأنه قد حقق ثأرا سياسيا على “المنظومة البورقيبيّة” في بعدها الاجتماعي والمناطقي والاقتصادي، لكن هناك فارقا بين أن يبدو الأمر كذلك وأن يكون كذلك فعلا. لا يحتاج قيس سعيد اليوم سوى إلى أن يبدو الأمر كذلك.
إنّ الانقسام الوحيد الذي تغذيه الشعبوية هو الانقسام بين الشعب والنخب. وسواء تعلق الأمر بيوسفيين أو ببورقيبيين، بدواخل أو سواحل، فإنّ الأمر يتعلق دوما بنفس الشعب الذي يمثل الزعيم الشعبوي روحه وإرادته ورحيق تاريخه وهويته. على مستوى الخطاب فإنّ المزيج الذي يصنعه قيس سعيد اليوم بين قوة الدولة وحكم الفرد والسيادة الوطنية والتعويل على الذات والمحافظة على الدولة هو مزيج لا يحسن صنعه إلا الشعبويون، لأنه لا يتجاوز في الغالب حقل الخطاب السياسي الذي يتطور بسرعة ليصبح مجرد بروباغندا مخاتلة تظهر تناقضاتها يوميا عند الإصطدام بصعوبات الواقع. ينزع قيس سعيد البورقيبية من الزعامات التي بنت حظوتها على الاستناد إلى إرث بورقيبة، كما ينزع اليوسفية، بوصفها مزاج تمرّد، عن كل أولئك الذين وصلوا الحكم بعد 2011 بالاستناد إلى سرديّتها اليعيدة. شعب واحد لا تشقّه أيّ تناقضات يسير خلف زعيم أمسك أخيرا بروحه العميقة ليأخذها إلى حيث تريد منها مهمتها التاريخية الخالدة.