يضجّ الصحفيون في تونس منذ الأمس، فرادى أو عبر نقابتهم، بالإحتجاج على مضمون اللقاء الذي جمع قيس سعيد بالمديرة العامة للتلفزة التونسية، وما يقولون أنه تدخل سافر في السياسة التحريرية لهذه المؤسسة الإعلامية العمومية. نُظّم هذا اللقاء فيما يبدو على عجل، حيث ظهر انتقال مديرة القناة الرسمية لقصر الرئاسة دون الاستعداد الكافي لمثل هذه المناسبات.
بدت المديرة التي جاءت بنفس الملابس التي كانت تقدم بها برنامجها الخاص على القناة الوطنية الأولى، مضطربة وشاحبة ومتفاجئة. لقد كان واضحا أن مصالح الرئاسة اتصلت بها قبل اللقاء بدقائق، وأنها طلبت منها المجيء بسرعة للقاء الرئيس، ما حرمها من أي فرصة للإستعداد للقاء، مثلما وقع بالضبط مع رئيس الحكومة المكلف قبل أيام. هذا مؤشر على طريقة تصرف الرئيس، وعلى حرصه على عدم ترك أي هامش من الوقت لضيوفه للاستعداد، حيث تبدو الأمور غير قابلة للتأجيل ولو دقائق معدودة، وكأن الأمر يتعلق بالزر النووي.
لقد تعود الرئيس على تقريع موظفيه على الملأ، وعلى عدم إفساح أي مجال لهم لنطق كلمة واحدة في الشريط الذي يقع بثه بعد مثل هذه اللقاءات. باستئثاره الكامل بالكلمة، فإن الهدف ليس فقط تقريع موظفيه، وإنما مخاطبة الرأي العام. هناك حرص متواصل من قيس سعيد على إتباع هذا السلوك الاتصالي المباشر مع الناس، وهو سلوك لا يقبل أي استثناء. لقد ألقى قبل أيام بمناسبة تنصيب رئيس الحكومة الجديد خطابا منفردا بأكثر من عشرين دقيق، ولم يسمح لا لرئيس الحكومة المقالة بشكره، ولا للجديد بالحديث عما ينوي فعله. لقد أصبح الأمر يتعلق بسلوك إعتيادي للرئيس لم يعد يثير أي تعجب.
الحقيقة أن الرأي العام فوجئ بتقريع الرئيس لمديرة التلفزة العمومية وهي التي حرصت منذ أزيد من عامين على تخصيص القناة للرئيس وأنصاره والمدافعين عن كل توجهاته وآرائه، موصدة الباب أمام كل أولئك الذين تعودوا، قبل 25 جويلية 2021، تلقي الدعوات من منتجي البرامج للإدلاء بآرائهم حول الوضع العام. لا أحد في منأى عن غضب الرئيس إذا، ولو كانت السيدة مديرة التلفزة. حتى الإنخراط في كل ما يريده الرئيس، أو ما يُشتَمّ من أنه يريده، لا يُحصّن أحدا من اللوم والتقريع. أسهب الرئيس هذه المرة في تفصيل لومه على المسؤولة "المنخرطة"، حيث ندد بطريقة ترتيب الأخبار في النشرة الرئيسية للقناة، معتبرا أنها غير بريئة (وهذا يعني أن هناك مندسين يعملون ضده دون علم السيدة المديرة أو بسبب قلة حرصها)، كما استنكر بث برنامج من الأرشيف بعنوان "الزمن الجميل" يتحدث عن فترة بورقيبة وبن علي. لم يكن زمنا جميلا بحسب الرئيس، بل قبيحا وموغلا في القبح. هذه أول مرة يصرح فيها قيس سعيد بمثل هذا الوضوح والإسهاب في تقييمه لما قبل 2011، حيث دعا المديرة إلى تخصيص برامج تنقل انتظارات الناس أيام الثورة إلى حدود إعتصام القصبة الثاني.
يعتقد قيس سعيد أن الثورة قد اختُطفت من قبل أنصار الانتقال الديمقراطي، أي "العشرية السوداء"، وأن ذلك تم بفضّ الإعتصامين الذَين تشرب فيهما أفكار "قوى تونس الحرة"، المجموعة اليسارية التي اقترب منها الرئيس منذ ذلك الوقت وطيلة العشر سنوات اللاحقة. أجهض الانتقالُ الديمقراطي "الانتقالَ الثوري" إذا، لذلك يجب الآن العودة للانتقال الثوري بعد أن تمت تصفية العشرية وانتقالها الأسود. هذه مسائل نظرية ليس هنا مجال تفصيلها. يرغب قيس سعيد في إعادة ساعة الزمن إلى فيفري 2011، واستئناف حركة التحرر الوطني من حيث وقع إجهاضها من قبل النُّخب. يعطي ذلك في الحقيقة حكمه واستفراده بالدولة منذ الخامس والعشرين من جويلية 2021 نوعا من الشرعية الأخلاقية التي يحتاجها في مواجهة خصومه ومنتقديه، ويبرر كل ما يبدو من "تجاوزات" في نظر الرأي العام. وكما يقع في كل حرب، تحريرية أو غيرها، فإن هناك دائما خصوما يتربصون ويخططون لهزيمة الصادقين وأصحاب الحق. الصعوبات التي تعيشها البلاد اليوم في كل الميادين ليست إذا سوى تمظهرات لخطط الأعداء، ما يدعو إلى مزيد رصّ الصادقين صفوفَهم، وإلى أن يكون الإعلام في هذه الحرب إلى جانب الصادقين، وبلا حدود. رئيس للتحرر الوطني ورئيس لتحرير نشرة الأخبار إذا.
في الأثناء، ومثل مؤسسات عمومية أخرى كثيرة، تبدو التلفزة الوطنية اليوم خاوية على عروشها. لقد وقع استبعاد الصحفيين الأكفأ، وأُغلقت البرامج الحوارية التي يُستمع فيها للرأي المضاد أو الناقد، وإذ وجدت مديرة التلفزة أن "مهمتها تاريخية" فقد أصبحت تشرف بنفسها على بعض البرامج الجديدة، مع الاحتفاظ بإدارة برنامجها القديم حول التوعية الصحية. في حالات أخرى، وخشية "التجاوزات"، فقد أوكلت لعدد من أصدقائها الثقات ممن لا تخشى منهم أي شجاعة، إدارة برامج أخرى يُدعى إليها نفس الضيوف والمحللين من الثقات أيضا. لقد ذهبت كل احتياطاتها أدراج الرياح، ولم تنجُ رغم اجتهادها من التقريع على الملأ. بل إن المتابعين لاحظوا أن برنامج "الزمن الجميل" على حساب المؤسسة على شبكة اليوتوب قد وقع غلقه على المتصفحين إثر لقاء المديرة مع الرئيس مباشرة.
ينطلق قيس سعيد عبر كل ذلك في جهد كبير لمسح ذاكرة العشرية السابقة، وإعادة التونسيين إلى "اللحظة الثورية" لبداية 2011، وهو لا يستطيع النجاح في ذلك دون مساعدة الإعلام العمومي الذي يتحول بخطى واثقة إلى إعلام رسمي. قبل أيام قليلة، أعلنت السلطات عن دمج دار "الصباح" المصادرة لفائدة الدولة، مع دار "لابراس" المملوكة لها أصلا، في مؤسسة واحدة. كما أفشلت السلطات عملية التفريط بالبيع في إذاعة "شمس أف أم" المصادرة أيضا للدولة منذ بدايات الثورة. تعيش كل هذه المؤسسات وضعية مالية صعبة مهددة بالإفلاس، لكنها تتحول اليوم إلى نوع من القطب الإعلامي الرسمي قيد التأسيس في يد قيس سعيد، تهاجم دون هوادة خصومه ومنتقديه، وتتجاهل إرادة القلة الباقية من صحفيي المؤسسات المذكورة الذين تعودوا على الحرية في "العشرية السوداء" ولا يرغبون في التفريط فيها.
لا يتعلق الأمر فقط بمسح الذاكرة القديمة، بل بتعويضها بذاكرة جديدة متلائمة مع حاجة الرئيس المتجددة والمتصاعدة لشرعية أعلى من الإنجازات الغائبة. في حربه لتحرير الذاكرة من أوهام الانتقال الديمقراطي، لا يُضير قيس سعيد أن يصبح محددا لمضامين الأخبار، ولا حتى لطريقة ترتيبها في نشرات الأنباء. هذه مجرد تفاصيل في حرب التحرير الكبرى التي يجب على كل الصادقين أن ينخرطوا فيها دون حسابات، وأن يواجهوا في خضمّها كل وسائل الإعلام الأخرى التي تنتقد إدارة الرئيس للأزمة، وتفسح المجال لمنتقديه لإبداء آرائهم في إنجازاته الخارقة.