مآزق إستراتيجيا السيطرة لدى قيس سعيد
تمثل السيطرة وتقنياتها جزءا مهما من الإستراتيجيا السياسية لدى الفاعلين الرئيسيين في أي سياق سياسي. ما يمكن ملاحظته هو الدرجة العالية من العقلانية التي طبعت السلوك السياسي لقيس سعيد منذ انتخابه رئيسا للجمهورية قبل حولي الأربع سنوات. إن العقلانية هنا لا علاقة لها بالأخلاقية، بل إنها في الغالب، وليس في مثال قيس سعيد فقط، تكون في تباعد مستمر عنها. عندما نتحدث عن عقلانية سياسية فإننا نعني بالذات تلك القدرة على صياغة خطة بالنظر لتوازنات معينة، وتطوير أو تطويع تلك التوازنات من أجل تحقيق الهدف الأكبر للخطة، وهي التحكم كليا أو بصفة أكثر وضوحا، في الساحة السياسية. في مثال قيس سعيد، وقع الانتقال في ظرف أقل من أربع سنوات إلى صورة مناقضة تماما للصورة الأولى للتوازنات التي أتت به للرئاسة. إن صورة الغول السياسي الذي أصبح عليها اليوم هي ببساطة نتاج للتحكم في التوازنات التي أرادت أن تسجنه في صورة حمل وديع قابل لكل أشكال الضغط ومحققا، بقبوله ذلك، الأهداف الإستراتيجية لخصومه ومنافسيه في التحكم والهيمنة.
الخط البياني للتغول
ينبغي التذكير بجملة من المقومات الرئيسية في الإستراتيجيا التي حملت قيس سعيد للتحكم شبه التام في الوضع السياسي اليوم. فبغض النظر عن الموجة الشعبوية القوية التي منحته مقعد الرئاسة بحوالي ثلاثة أرباع أصوات الناخبين في نهاية 2019، لا يمثل هذا النصر الانتخابي إلا جزءا بسيطا في تفسير ما جرى منذ ذلك الوقت. استعمل قيس سعيد الشرعية الشعبية لتوفير المقومات لسحق خصومه، ولكن تلك الشرعية بمفردها لم تكن قادرة على تغيير شيء ذي قيمة كبيرة في السياق الدستوري آنذاك.
إن قيمة الشرعية الانتخابية الواسعة لقيس سعيد كانت في منحه سماحا لخرق الدستور، وهو خرق بدأ فيه قبل 25 جويلية. يعني ذلك أن الشرعية الانتخابية عنصر رئيسي، لكن غير محدد. ما كان محددا هو حالة الشلل التي أصابت خصومه رغم قيمة الحصون الدستورية التي كانوا يحتمون بها. ما كان محددا أيضا هو عقلانية الخطة التي وضعها قيس سعيد بناء على الاستفادة من شلل خصومه ومن الأزمة الصحية التي ضربت البلاد إبان جائحة كوفيد، وانعكاساتها الاجتماعية.
صاغ قيس سعيد تحالفات موضوعية مع المعارضة آنذاك، وكانت هذه الأخيرة عاجزة فعليا عن حسم الأمور ديمقراطيا. أخذ قيس سعيد جزءا من المعارضة إلى الحكم عبر الفخفاخ، مجبرا حركة النهضة وحلفاءها على الرضوخ للتهديد بحل المجلس، ونجح في الوقت نفسه في بناء توازن مصلحة مع الدستوري الحر. انعكس ذلك بوضوح في إصابة البرلمان بالشلل، وهو شلل خطط له الرئيس الذي سيصبح بإمكانه بعد ذلك الاستفادة من الصورة المهترئة للمؤسسة التشريعية، ومن عجز خصومه على حسم الأمور عبر تنقيح قانون المحكمة الدستورية. كان ذلك هدفا واضحا لقيس سعيد الذي صرح باحتكاره لتأويل الدستور، ما يعني أن نجاح خطته بعيدة المدى في السيطرة كان يتضمن منع نشأة أي مؤسسة أخرى قادرة على منازعته تأويل النص الدستوري.
سيلقي قيس سعيد بحلفاء المرحلة في دائرة الإهمال بمجرد سيطرته على الأوضاع بصفة منفردة في 25جويلية. بل أكثر من ذلك، فقد استفاد من استحسان تلك المعارضة لحركته غير الدستورية لفترة معينة، وهو ما مثل غطاء لخطته في التحكم التام في الوضع. استعمل قيس سعيد بداية من 25 جويلية وبدرجة أساسية القوى الصلبة للدولة فيما يشبه عملية تحويل ولاء هذه المؤسسات من الدستور لشخص الرئيس. كان ذلك في الحقيقة تتويجا لعملية احتضان متبادل بين رئيس الجمهورية وكبار الضباط عبر خلق هيكل جديد هو "مجلس القيادات الأمنية والعسكرية" الذي أعلن فيه قيس سعيد عن تفعيل فصل الإجراءات الإستثنائية مساء 25 جويلية. اختلق قيس سعيد هذا الهيكل غير الموجود في الدستور من أجل الاستفراد بالقيادات الأمنية والعسكرية، والتحكم في ولائا بعيدا عن تدخل وزرائهم المباشرين. فيما بعد، ستكون بعض أحداث العنف التهديد الذي سيقع استغلاله من أجل إقناع تلك القيادات نهائيا بالمصادقة على تفعيل الأحكام الاستثنائية، توقيا للفوضى التي قد ترحل بكل شيء.
بعيدا عن كل التأويلات القانونية والدستورية للفصل الثمانين من الدستور المثير للجدل، فإن ما سمح للرئيس قيس سعيد بالمضي قدما في تفعيله ثم في تنفيذ بقية الخطوات حتى وصوله إلى درجة التغول الحالية، هو مساندة القوى الصلبة للدولة. هناك ميزان قوى موضوعي مال نهائيا إلى جانبه عبر هذه المساندة، في حين أن الدستور بما في ذلك فصله المذكور، كان مجرد شكليات وغطاء لقلب الوضع. معنى ذلك بوضوح أنه حتى لو لم يكن هناك فصل للأحكام الاستثنائية، فإن انقلاب التوازنات بفعل مساندة القوى الصلبة كان سيحدث. كيف نفسر أن الجيش أغلق المجلس المنتخب بالمدرعات إذا بقينا في حدود ما يقوله الدستور وفصله الشهير؟ وكيف نفسر عمليات الأجهزة الأمنية ضد المعارضين الحقيقيين والمفترضين خارج نطاق القانون والقضاء إذا كان الهدف هو إحترام القوانين؟ هناك انقلاب جذري في ولاء الأجهزة الصلبة، ولم يكن كل الباقي إلا مجرد غطاء فقهي لكل الخطة.
يتحول قيس سعيد اليوم إلى غول حقيقي بتحكمه في كل مؤسسات القوة والردع والقمع، إما خارج القانون أو بتطويعه كما تقتضيه ضرورات السيطرة. بل إن ذلك يتم في أحيان كثيرة حتى ضد فصول الدستور الجديد التي صاغها بنفسه وبصورة منفردة، ولم يصوت عليه إلا عدد ضعيف من التونسيين. أدت النسب الضعيفة للمشاركة في انتخاب مجلس نواب الرئيس أيضا إلى تحول واضح في التوجه العام لسياسته: مزيد التعويل على الأجهزة الصلبة وعلى إخضاع بقية المؤسسات في مواجهة خيبة أمل من المشاركة الشعبية التي كان يتوقع أن تكون صعودا شاهقا آخر في التاريخ.
إن برلمانا منتخبا فقط من عشر من يحق لهم الانتخاب يمكن أن يكون غطاء شرعية ولو ضعيفا، لكنه لا يقدم أي ضمان لنجاح نهائي لخطة التحكم. ذلك ما يفسر إلى حد كبير الهجمة الواسعة التي أطلقها قيس سعيد ضد خصومه ومعارضيه مباشرة بعد تلك الانتخابات، والتي بينت إلى أي حد يمكن أن يمضي في توريط مخالفيه، بغض النظر عن صدقية الأفعال المنسوبة إليهم. شيئا فشيئا يزيد تحول قيس سعيد للتعويل على الأجهزة الصلبة للدولة، بل ويحول مؤسسات إنفاذ القانون، مثل القضاء، إلى أجهزة صلبة جديدة بتوجيهها تماما، تحت قصف تهديداته المستمرة، لخدمة استراتيجيا التحكم لديه. بطريقة تناسبية، يزيد قيس سعيد في تكثيف السلطة ويضعف في الوقت نفسه أي شرعية سياسية لمشروعه، ليتحول حكمه إلى مجرد ملك عضوض. على المستوى البعيد، يضعه ذلك في مرتبة الحكم المطلق شكليا، لكنه يصنع منه أسيرا للأجهزة التي ترى أبعد منه.
وعود العنقاء
لماذا كان الإسلاميون هم الهدف الرئيس لقيس سعيد؟ ليس للأمر علاقة بمحافظته، بل ربما كان الاشتراك معهم في عدد من الأفكار المحافظة عنصرا إضافيا في تبرير استهدافه لهم بحكم التنافس على رأسمال رمزي له تأثيره الكبير في السياق الثقافي والاجتماعي التونسي العام. إن استهداف الإسلاميين بشكل رئيسي هو حاجة إستراتيجية لقيس سعيد لعدة أسباب، أولها هو أنه لا يمكن له التحكم إلا بإزاحة المتحكم الأصلي في الوضع. وثانيها أن استهداف الإسلاميين يسمح بتحشيد كل الغضب والإحباط من "العشرية السوداء". هناك دوما حاجة إلى عدو مثل حركة النهضة من أجل تقوية الموجة التي يأتي على عبابها "المنقذون".
يسمح استهداف حركة النهضة من وجهة نظر معينة بتكتيل القوى الصلبة للدولة خلف الرئيس، ودفعها لتقديم كل ما يتسنى لها من خبرات تقليدية في مواجهتهم. عندما قام قيس سعيد بحركته في 25 جويلية، لم يكن قد مضى على آخر حملات استئصال الإسلاميين إلا عقد من الزمن، ما يعني أن قدرة الأجهزة على الاستفادة من خبراتها كانت لا تزال متاحة. نشأت أجيال من ضباط الأمن على عقيدة كره الإسلاميين واعتبارهم عدوا أساسيا "للدولة". وبالرغم من عقد كامل من السنين حاول فيه الإسلاميون ترويض تلك الأجهزة، بل وأحيانا تفتيت بنائها القيادي، فقد بقيت وفية لنهج دولة الاستقلال الرافضة لوجودهم السياسي، فما بالك بتحكمهم في الدولة.
ينبغي النظر في اجتهاد الأجهزة في بناء الملفات ضد الإسلاميين اليوم لنفهم حدة الحماس الذي يحدوها لاستئناف الدور القديم. إن عملية التشفي التي تتم اليوم في قيادات حركة النهضة ليست في نهاية الأمر إلا تعبيرا عن الالتقاء بين الرغبة السياسية لقيس سعيد في إفراغ الساحة من الخصم الرئيسي المهدد لسطوته، وانخراط الأجهزة في سلوك غريزي لا تعوزه "العقلانية" ضد الخصم الإيديولوجي "للدولة". يؤدي ذلك إلى استنتاج بسيط: أنه كلما تواصل المضي في هذا الطريق، سيكون من الصعب على الرئيس أن يعيد النظر في استراتيجيته وسيتدعم تحكم الأجهزة في مصيره السياسي. يدفع سلوك الأجهزة، حتى بادعاء أن ذلك يتم بمبرر الولاء للرئيس، إلى قطع أي إمكانية لمراجعة الاستهداف الذي أطلقه قيس سعيد تجاه الإسلاميين، ويزيد استراتيجيا في هشاشته تجاه القوى العميقة في الدولة.
تقليديا، يمثل التخلص من العدو الرئيسي المنعرج الذي يؤذن بإطلاق مسار التباين بين الحكم ومسانديه الأكثر حماسا له في مرحلة المواجهة مع ذلك العدو. سيتوجب على كلا الطرفين، الحكم والأجهزة، بعد ذلك مباشرة إعادة رسم فضاءات الهيمنة، واكتشاف خطوط التماس بينهما، تلك الخطوط التي كان يغطيها غبار المواجهة مع الخصم الأول. إن تأخير ذلك يستوجب أن تستمر تلك المواجهة أطول مدى ممكن، وهذا ما يفسر اليوم كثرة اكتشافات قضايا التآمر وتحرير المركب الأمني القضائي من كل المكابح التي تعيق سيره بالسرعة القصوى. لكن لكل مواجهة نهاية، هذا أيضا توقع عقلاني.
تسمح مواجهة الإسلاميين بأكثر من تلاحم مؤسسات الدولة في الحروب التي تخوضها. إنها تسمح في المثال التونسي اليوم بتأطير التوتر في المزاج العام وتوجيهه وجهة سياسية لمنع تحوله إلى توتر اجتماعي يقتات من الأزمة الاقتصادية والمالية والتموينية الخانقة. بطريقة أو بأخرى، تشترك الشعبوية السلطوية في هذا التمشي مع كل مشاريع السلطوية الأخرى، بغض النظر عن أي مبررات مبدئية. إن توجيه غضب الجموع ضد الخصوم السياسيين للسلطة تقنية قديمة تظل نافعة ومثمرة في الفترة الأولى من أي مشروع هيمنة، لكن نجاعتها تنحسر إذا استمرت الأزمة، أي عندما تبدأ الجموع في الاستفاقة على أن هواجسها كانت مجرد وقود في معركة لم تعد عليها بأي نفع. حينئذ، يبدأ الجمهور في التوجه نحو السلطة وطرح السؤال المحوري التالي: لماذا لم تستطيعي، بالرغم من كل الصلاحيات والقدرات، أن تحلي مشكلا واحدا من تلك المشاكل التي تصنع بؤسنا وتجعله مستمرا؟ ينتظر الإسلاميون هذه اللحظة، مثلهم مثل بقية المعارضين الجديين. إن الطريقة اللينة التي يواجهون بها محاولات استئصالهم تدل على أن المعركة بالنسبة إليهم تخاض على المدى الطويل، وأن تحقيق أي انتصارات فيها لا يمكن أن يبدأ إلا بعد استنزاف طاقة الرفض العام التي تواجههم اليوم في أوساط الجمهور.
يضطر قيس سعيد اليوم للصمت على الدستوري الحر، وتجاهل غزوات زعيمته وحدة هجماتها عليه. وبغض النظر عن أي تحالفات ضمنية وفعلية سابقة بينهما، فإن قيس سعيد يخطو بذلك التجاهل خطوة إضافية نحو طريقين منفصلين في الوقت نفسه. خطوة نحو القوى المعارضة مصلحيا ومبدئيا للثورة، حيث تمثل هذه القوى اليوم أكبر جزء من المزاج العام. وخطوة نحو نزع أي أخلاقية عن استراتيجيا التحكم التي يسير فيها. لا يرغب قيس سعيد، في موضوع الخطوة الأولى، في فقدان حليف ضمني يشترك معه اليوم، بل أكثر فأكثر، في القاعدة الانتخابية. إن عملية امتصاص قواعد الدستوري الحر لفائدة مشروعه ينتج بطريقة متوقعة عملية فقدان للمكون الأخلاقي في مشروعه السياسي، ويعري غايات الهيمنة التي لا تختفي وراءها سوى الهيمنة نفسها.
طرديا، يعول الإسلاميون أيضا على وصول هذا المسار إلى منتهاه: فقدان "مشروع قيس سعيد" للمبررات الأخلاقية التي حققت له قبولا في أوساط الجمهور. يعرف الإسلاميون جيدا أن قوة قيس سعيد على مستوى الشعبية التي يحظى بها، تكمن في ضمه القوى المضادة للثورة لصفوف أنصاره الضمنيين، ولكن في الوقت نفسه إطلاق الشعارات الداعمة للثورة. هذا التناقض الأصلي بين الوقائع على الميدان وبين الغزوات الخطابية للرئيس هو تناقض غير قابل للاستمرار موضوعيا. إن خطة النهضة تقوم اليوم أساسا على الانتظار: انتظار أن يكتشف الجمهور أن الإسلاميين ليسو ا الهدف المثالي لغضبه، واكتشافه أيضا حجم التناقضات التي تشق مشروع الرئيس وطريقة تنزيله في الواقع. تنظيميا، عبر الإسلاميون باستمرار عن قدرة على الصمود، وعلى تنظيم محكم لإمكانياتهم. في مواجهة رئيس لا يملك تنظيما، وتزيد أخطاؤه كلما زاد تعويله على الأجهزة الصلبة، بل ويدخل كل الفخاخ الممكنة بقدميه، فإن المؤدى النهائي للصراع لا يدع أي مجال للشك في تحول المزاج العام على المدى المتوسط والطويل بعيدا عن رغبات الرئيس. لا يمكن إنهاء أي مشروع سياسي بمجرد قرار إداري أو أمني أو قضائي، هذا درس تاريخي بسيط، بغض النظر عن طبيعة هذا المشروع.
حدود الخل الودود
ليس هناك من شك اليوم في استعداء قيس سعيد، في سياق رؤيته الشعبوية، للنخب. لكن ليس هناك من شك أيضا في أن النخب، ماعدا استثناءات شبه نادرة، أصبحت تقاسمه هذا العداء. بغض النظر عن كل البناء النظري للشعبوية، وبغض النظر أيضا عن قناعتنا بأن شعبوية قيس سعيد ليست إلا سلوكا يبتدعه جزء من النخب في حربه ضد النخب الأخرى وأن الأمر لا يتعلق في صلبه بقناعة ما بأن النخب غير ضرورية، فإن الهيمنة ليست في نهاية الأمر، وبالمطلق، إلا نتاج أداء النخب. تاريخيا واجتماعيا، لا يمكن الحكم من دون نخب. هذه قاعدة منطقية نعتبر أن التدليل عليها مجرد مضيعة للوقت.
في انتظار أن ينجح قيس سعيد في إنشاء نخب أخرى، وهو أمر يستغرق في المعدل مابين جيل وثلاثة أجيال، فإن سيطرة النخب التي يستهدفها ستظل واقعا لا هروب منه. لا يمكن لقرار إداري أن ينزع مجتمعا من نخبه مهما كان هذا القرار قويا، والأمر نفسه صحيح لو تعلق بقرار سياسي أو قضائي. إن تلخيص قيس سعيد وأنصاره للنخب في النخب السياسية فقط هو تلخيص واع، وتأطير مبرمج للحرب السياسية التي يخوضونها ضد خصومهم السياسيين، لكن النخب السياسية كانت تأتي باستمرار من نخب أخرى، بل إنها سوسيولوجيا ليست إلا تمثيلا، في السياسة، لمصالح نخب إقتصادية واجتماعية وثقافية فاعلة في عمق المجتمع. يعني ذلك ببساطة أنه لا يمكن استئصال النخب السياسية لأن منبعها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لا ينضب أبدا، بحكم طبيعة المجتمع ذاتها.
إن الفخ الذي أطبق به قيس سعيد على نفسه هنا فخ خطير. يكفي النظر في طبيعة ومستوى النخب التي يعول عليها من أجل ترسيخ سطوته على الدولة لنفهم بيسر شديد أن مشروعه لن يكون قابلا للاستمرار طويلا جدا. يخضع معظم الإعلام اليوم، مباشرة أو عبر تحريك الملفات وخاصة عبر المرسوم 54 القاتل للحريات الصحفية، للرئيس. لكن صحفيا واحدا يقع اضطهاده يسبب للرئيس خسائر تفوق بكثير ما أنفقه من جهد لإخضاع مائة صحفي. في المقابل، فإن من يعول عليهم للدفاع عن مواقفه في وسائل الإعلام لا يحظون بأي مصداقية أخلاقية أو سياسية تجعلهم قادرين على التصدي للهجمات التي يصوبها عليه صحفيون محترفون. يتساءل كثيرون أنا منهم، عن مدى أخلاقية أي مشروع سياسي لا يجد أحدا يدافع عنه غير حفنة واحدة من مستخدمي القنوات. على المدى البعيد، ومهما كانت القرارات والمراسيم ومدى سرعة المركب الأمني-القضائي، فإن النتيجة تبدو محسومة لغير مصلحة "المشروع". ففي حين استطاع المعارضون جلب مساندين كثيرين سابقين للرئيس إلى صفوفهم، فإن دائرة أنصاره تضيق أكثر فأكثر، يوما بعد يوم.
يعتقد الرئيس أن بإمكانه تعويض النخبة السياسية التي أعلن عليها "حرب التحرير الكبرى" أمر متاح بإنشاء نخب أخرى موالية. لكن ما حدث هو أن الأمر أدى إلى إنشاء مؤسسات ضعيفة الشرعية وغير قادرة، بمقتضى الدستور نفسه الذي صاغة الرئيس انفراديا، على بناء أي مصداقية لدى الجمهور. هذه وضعية برلمان الرئيس اليوم، وستكون وضعية كل المؤسسات التمثيلية الأخرى التي سينشئها في المستقبل. على مستوى الأنصار والتنسيقيات المساندة، تبدو هذه الأخيرة مجرد قوى افتراضية تنشط على الشبكات الاجتماعية دون تأثير فعلي في الواقع. هذا لا يتناقض مع استفادتها من المزاج العام للجمهور واستفادتها من إبقاء هذا الجمهور متوترا باستمرار، ومع كل التقنيات المعتمدة من أجل ذلك. ماذا يطرح الرئيس من أجل إبقاء هذا "التنظيم" متماسكا؟ تقديم الوعود له بريع قادم. هذا الريع هو مناصب الدولة ووظائفها، لكنه أيضا الصلح الجزائي والشركات الأهلية.
تتعثر محاولات خلق الريع الجديد وإعادة توزيعه على الأنصار من أجل إبقائهم في حدود "المشروع"، وهذا التعثر ليس سببه فقط "التعطيلات الإدارية" و"المؤامرات التي تحاك في الغرف المظلمة"، بل سببه الأساسي قصور التصور العام، وعدم القدرة على تحويل "المقاربات الجديدة" إلى وقائع موضوعية. إن وضعية الشلل التي تصيب الإدارة اليوم بسبب التخوف من المحاسبة العشوائية والمزاجية وسوء فهم الطرق العقلانية المنظمة لعمل الإدارة يضيف مشكلا آخر في سلة المشكلات التي تعيق نجاح "المشروع"، وتضع على الرئيس أعباء تنفيذية جديدة. يجعل ذلك الإدارة موضوعيا في دائرة القوى "المتلكئة" وفي دائرة غضب الرئيس الذي يعتقد أن الأمر يتعلق بمؤامرة أخرى جديدة، فيزيد سلوكه المهدد في توسيع دائرة التوجس وبالتالي التلكؤ داخل صفوف الإداريين، فيعم الشلل أعضاء أخرى من جسد المشروع.
سياسيا، بل وفي منظمات المجتمع المدني أيضا، فقد قيس سعيد بصفة شبه كاملة قوة الدفع التي سمح بها سياق 25 جويلية، وفيما عدا عدد من الأحزاب الإنقلابية جينيا، وعدد من الزعامات المفتقدة لأحزاب حقيقة، فإن عزلة الرئيس تبد اليوم كاملة وباتة . لا يهم هنا من ظل يبحث عن هذه العزلة و لو كان الرئيس نفسه. لا يمكن سياسيا، وعل المدى الطويل الإرتياح لوضعية العزلة لأنها تخلق ميزان قوى موضوعي غير الذي يترسخ ظاهريا. يعرف الجمهور اليوم أن من يساند الرئيس من الأحزاب والشخصيات إنما يفعل ذلك لاعتبارات انتهازية بحتة. عندما يكون الرئيس ممتلئا بنفس القناعة فإن الأمر يتخذ أهمية أكبر. يعني ذلك أن تلك المساندة بلا قيمة وبلا تأثير في التوازنات العامة.
في الوقت نفسه، أصبحت منظمات المجتمع المدني الرئيسية في وضعية تربص صريح بالرئيس ومشروعه، في انتظار اللحظة الملائمة. وإذا كانت نقابة الصحفيين، لاعتبارات متعددة، هي من تحتل صدارة الموقف اليوم، فإن منظمات أخرى أكثر قوة وتأثيرا اختارت انتظار مرور اللحظة القصوى من العاصفة بتقليل الخسائر. هذا سلوك لا ينبئ بخير كثير لقيس سعيد إذا ما مال ميزان القوى في يوم ما، مستقبلا.
في نهاية الأمر ماذا ينتظر كل هؤلاء الخصوم للمرور إلى غير وضعية الكمون الحالية؟ ينتظرون ببساطة تحول المزاج العام، نقطة قوة قيس سعيد الرئيسية اليوم. يعرف كل خصوم الرئيس أن المزاج سيتغير في لحظة ما، وأنه رهين استتباعات الأزمة الخانقة اقتصاديا وماليا اليوم، وانعكاساتها الاجتماعية المتوقعة. يفهم خصوم الرئيس أيضا أنه برفعه سقف انتظارات الناس، وتقديم تفسيرات غير عقلانية للأزمة العامة، فإنه يسير في طريقة فقدان مصداقيته تجاه الجمهور. أكثر من ذلك، هم يعرفون أنه لا فكاك للبلاد من أزمتها بالطريقة التي يتصورها الرئيس، وبالطريقة التي يعمل بها. يدرك هؤلاء أيضا أن السلطوية ستكون عاجزة عن الإستمرار طالما لم تستطع تقديم إجابات على الرغيف وتراجع المعيشة. أكثر من ذلك، وبغض النظر عن أي استفادة يحققها الخصوم من وضع مماثل، فإن التناقضات ستنفجر في أوساط القوى المواجهة لهم والتي يحتمي الرئيس اليوم بها.