لم تمض على تعيين قيس سعيد رئيسا جديدا للحكومة أو للوزراء سوى أيام عشر، لكنه وجد الفرصة في هذه الفترة القصيرة للحديث معه، أو بحضوره، ثلاث مرات عن موضوع الإدارة وضرورة تطهيرها "ممن تسللوا إليها" وأصبحوا عائقا أمام تنفيذ الدولة لبرامجها. أوحى ذلك بأن قيس سعيد قد أصبح يضع مسألة الإدارة في أولوية اهتماماته، وقد حصل ذلك حتى قبل تعيين الحشاني مكان نجلاء بودن، بل ومنذ أشهر. أصبح موضوع "تطهير الإدارة" أولويا حتى على مسألة "محاربة الإحتكار" الذي يعتبره الرئيس سبب الأزمة التموينية الخانقة التي تعيشها البلاد منذ مدة، والمتعلقة أصلا بعدم قدرة البلاد على توفير ما ينبغي من تمويلات لاستيراد حاجياتها من الخارج. بتقديمه موضوع "تطهير الإدارة" على غيره من المواضيع يقطع قيس سعيد خطوة جديدة في برنامجه بعيد المدى: تحويل الإدارة إلى رديف مباشر للسلطة السياسية تحت مبرر الانسجام داخل الدولة. نفس طريقة التفكير التي أصبح بمقتضاها القضاء وظيفة والبرلمان وظيفة.
سبق هذه الغزوة الجديدة للرئيس حديث عن التزوير في الشهادات التي دخل بموجبها عدد كبير من الموظفين الإدارة الرسمية، مُصدرا تعليمات شفوية مُتَلفزة للحكومة بإجراء "عملية تثبت واسعة" من هذه الشهادات. يكتمل المشهد إذا ليصبح كما يلي: هؤلاء الذين تسللوا للإدارة تسللوا إليها في سياق سياسي معين، وبشهادات مزورة، وبطرق غير قانونية. هذه في ما يبدو نظرة الرئيس للموضوع. من الغريب أن رئيسا كقيس سعيد، مختصّا فوق ذلك في القانون، يستسهل الموضوع إلى هذا الحد ويرمي بالشكوك تجاه الجميع، بل ويدمر مصداقية الشهادات التونسية التي أصدرتها الدولة التونسية نفسها، حتى قبل أن يشرع في هذا التدقيق. هناك قناعة شعبوية منتشرة لدى أنصار الرئيس، وهو أن اكتشاف عمليات تزوير يعني أن التزوير هو القاعدة. الرئيس يتبنى هذه النظرة هو الآخر فيما يبدو. هذا سلوك غريب وإن كان متوقعا من زعيم الشعبوية التونسية: لا يُفترض أن المُكلّف بتمثيل الدولة هو الذي يشكك في شهاداتها. هكذا جرت العادة واقتضى ناموس الدولة دائما.
يعتبر قيس سعيد أن العائق الرئيسي اليوم، والذي منعه من تحقيق أي إنجاز، يأتي من الإدارة المخترقة من خصومه. لقد أكد على ذلك في آخر لقاء مع أحمد الحشاني:"ضرورة إعداد مشروع أمر يتعلق بتطهير الإدارة من الذين تسللوا إليها بغير وجه حق منذ أكثر من عقد من الزمن وتحولوا إلى عقبات تعيق سير عمل الدولة". هذه أول مرة يستهدف فيها قيس سعيد خصومه السياسيين من داخل هجومه على الإدارة، بتدقيق المعنىين بغزوته الحالية: "المتسللون للإدارة زمن العشرية السوداء". كنّا في مقال سابق تعرضنا لموضوع تطهير الإدارة في نظر قيس سعيد، وتوقعنا أن يكون هدف هجومه هم هؤلاء بالتدقيق. يأخذ الأمر الآن طابعا أكثر عملية عبر تعليمات الرئيس لرئيس حكومته الجديد بإعداد أمر قانوني في الغرض، ما يعني أن قانونا سيصدر، وأن عملية تصفية ستحصل بالفعل.
لكن هناك إشكالا: يربط قيس سعيد الكفاءة بحسن النية، حيث يعتبر أنهما واجبا التوفر اليوم في كل المسؤولين الإداريين للدولة. هذا كلام معقول، لكن فكرة احترام القانون غائبة عنه تماما. هل سيغير قيس سعيد القوانين بأثر رجعي؟ أمر غير مستبعد تماما بالنسبة لرجل يعتبر القوانين مجرد شكليات عليها الخضوع للهدف بعيد المدى للسياسة. لا أحد يدري في الوقت نفسه كيف تأكد الرئيس من أن الأكفّاء موجودون خارج الإدارة، وإن كان ذلك قد تم التأكد منه فعلا، وإن حصل فكيف؟ إلا إذا كان يعتبر "حسن النية" موجبة حتما للكفاءة. هكذا يتحول الأمر إلى التالي: حسنوا النية، أي الصادقون، أي المؤمنون بالمسار، أي أنصار الرئيس، هم من يجب أن يتسللوا للإدارة هذه المرة. هذا هو الضمان الوحيد من أجل أن تجد برامج الرئيس طريقها للتنفيذ، وأن يحقق أخيرا بعض الإنجازات التي تشجع الناس للخروج للاقتراع بعد عام من الآن. يسمى ذلك في العلوم السياسية والإجتماعية "بناء زبونية سياسية"، وإذا صح أن جماعة العشرية السوداء قد قاموا بنفس العمل، فإن قيس سعيد لا يريد الآن سوى تكرار ما فعلوه هم سابقا. لا أحد يدري أين ستقف العملية، ذلك أن أي سلطة أخرى ستأتي لاحقا سيكون من حقها ممارسة نفس السلوك، وبناء زبونيتها الخاصة على أرضية من الإتهامات غير المثبتة لمن سبقها، وبتسييس متصاعد للمرفق الإداري.
يرفض قيس سعيد في خضم ذلك الاعتراف بمسألة هيكلية تدل عليها أمثلة عديدة: لقد فشلت حتى اللجان التي اختار كل أعضائها بنفسه على أرضية "حسن النية" المفترضة. "مؤسسة فداء"، "لجنة الصلح الجزائي"، وهيئة الإنتخابات، كلها نماذج تدل على أن المشكل يقع في مكان آخر تماما. هذه لجان أسسها الرئيس، ووضع القوانين المنظمة لسيرها بنفسه أو تحت رقابة مباشرة منه، وعيّن أعضاءها فردا فردا بنفسه أيضا، وجعل لها من الصلاحيات ما لا يقف أمامه شيء. فماذا كانت النتيجة؟ انتخابات "تشريعية" شارك فيها عشر الناخبين المفترضين، ومؤسسة شبه مغلقة، ولجنة تنتهي مهامها قريبا دون أن تكون قد نفذت سوى واحد على المليون من مهامها. لم يكن من بين هؤلاء الذين منحهم الرئيس الثقة والصلاحيات والإمكانيات أحد من العشرية السوداء. ينبغي التذكير بذلك أحيانا.
هناك مشكل أساسي اليوم بالنسبة لقيس سعيد والنظام الشمولي الشعبوي الذي يسعى لاستكمال تأسيسه، وهو أن الإدارة لا تستجيب بالحد الكافي. في مثل هذه الحالات فإن تفسير كل المشكلة بالنوايا المبيّتة للخصوم الذين "تسللوا إليها"، هو دوما التفسير الأسهل الذي يّعفيه وأنصاره من جهد الفهم. يَحير قيس سعيد اليوم في المقارنة بين ما يملكه من صلاحيات وضعها لنفسها وقدها على مقاسه، وبين ما أنجزه فعلا على الأرض. وبالفعل، فإن المقارنة مثيرة للحيرة، بل وللتوتّر. لكن السبب ليس دائما سوء النية، حتى وإن كان من ضمن الإحتمالات الممكنة.
الإدارة اليوم غير آمنة، لا في القوانين المنظمة لسيرها، ولا في مساحة الإستقرار الضرورية لكل موظف أو مسؤول داخلها. يشتغل الجميع تحت الضغط، وهذا الضغط غير عقلاني في معظم الحالات، لأنه مزاجي أولا، وسياسي ثانيا. وفي حين تقوم فكرة الإدارة على السلوك العقلاني، فإن السياق العام الجديد لم يفعل سوى أن أطاح تماما بالأمان الذي يمنحه احترام القوانين المنظمة للعمل الإداري خصوصا والعام إجمالا. يرى الموظفون اليوم غير ما يسمعون من الرئيس في موضوع الكفاءة وحسن النية، حيث يتحول يومهم إلى كابوس حقيقي ينعكس في إنطوائية شاملة وغياب تام لروح المبادرة. في الأزمنة غير المستقرة، يفضل الجميع ألا يتحرك دون غطاء، وهذا الغطاء هو الذي توفره في العادة القوانين.
يعلم الإداريون جيدا أن ما يُبحث عنه اليوم هو الولاء الأعمى وإتباع التعليمات حتى عندما تكون شفوية، ودون أي سند قانوني أحيانا، أو بنصوص قانونية تتجاوز كل المنطق الذي يبنى عليه عادة القانون. هذا ببساطة أمر يتجاوز العقل الإداري. هناك فعلا جمود إداري يمنع تنفيذ برامج الرئيس، ولكن السبب لا يعود لتآمر مثلما يفترضه قيس سعيد، بل لأن الأمور تتم بطرق أخرى تماما غير مقتضيات المزاج والتسرع وعدم احترام القوانين وغياب الإستشراف والنقاش والتداول. الأوامر والتعليمات غير قادرة بالفعل على كل شيء، أما القوانين فإن ما يجب أن تراعيه ليس الإرادة الطاغية والمزاجية للمُشرّع، بل تناسقها مع ما سبقها من قوانين أيضا، وخاصة وجود إمكانات حقيقية لتغيير واقع ما. يبدو أن أحدا لم يجرؤ على قول ذلك للرئيس حتى الآن.