استمرار الهرسلة الأمنية وممارسة الابتزاز ضد الشباب المطالب بالحقيقة في مقتل المرحوم عُمر العبيدي، ومحاكمة شباب الإحتجاجات بفصول قانونية ثقيلة وتسليط أحكام بالسجن لسنوات عليهم، يدل على أن "عقل الدولة" لا يزال هو نفسه، وأن الأمور لن تتغير في العمق قريبا. كل هذا الظلم لا يمكن إلا أن يسير بالأمور نحو الأسوأ. كل هذا الإحتقان وكل هذا الشعور بالمهانة سيجعلان أي استقرار لأي سلطة، صعبا، بل مستحيلا. هل يمكن لدولة ان تتصرف هكذا مع شبابها وتطمح لاستقرار؟
"قضية عُمر: تلخص كل هذا الوضع. تعامل الوزارة ومنتسبيها مع محاكمته، مع المطالبين بالحقيقة، بل مع القضية ككل، هو تعامل يؤكد الغطرسة العابرة للحكومات التي تواجه بها "المؤسسة الأمنية" ضحاياها. إفلات المذنبين من العقاب سيكون إعلانا صريحا بأنه لم تعد دولة في تونس، وإنما هياكل سلطة تعيش على أموال المواطنين، ثم تقمعهم أو تقتلهم.
هذا ما يجعل "قضية عُمر" بمثل كل هذه الأهمية: وحدها الحقيقة يمكن أن تنقذ الدولة، ولكن فقط إذا أرادت الدولة أن تنقذ نفسها !
بالنسبة لسلطة تعوّل على الأجهزة الأمنية في مواجهة مشكلة احتقان إجتماعي، فإن نوعا من التحالف الضمني ينشأ بينها وبين هذه الأجهزة ينتج عنه نوع من التضامن المتبادل والحماية المتبادلة. هل هذه السلطة واعية بأن ارتفاع نسق التجاوزات الأمنية، وخرقها للاتفاق الضمني الأوّلي (الذي يريدها أن تبقى "تجاوزات" معقولة وفردية فقط) يعني تهديد استقرار وتهديد بقاء تلك السلطة نفسها؟
تبدأ أي سلطة في فقدان السيطرة على الأوضاع ليس فقط بتصاعد الإحتجاجات، بل بدخول هذه السلطة في حلقة مفرغة تجعلها غير قادرة على فرض الإنضباط على الأعوان المكلفين بتطبيق القانون والذين يتحولون إلى منتجين باستمرار للإحتقان الإجتماعي و للرغبة في الإحتجاج.
هذا ما يحدث اليوم تقريبا: أجهزة أمنية تتصرف كأنها كل الدولة، تسلط عسْفها حتى على مؤسسات الدولة الأخرى مثل القضاء، وتعتبر أنها أقوى من السلطة السياسية، وتتحكم في المعلومات التي تصل لهذه السلطة، بل تجعلها أحيانا أضحوكة الرأي العام. هذا ليس عبثا وليس مصادفة: هذا مجرد إخراج مشهدي لموازين قوى حقيقية على الأرض.
بشكل أو بآخر، يمثل الإفلات من العقاب عندما يتعلق الأمر بتجاوزات أمنية فادحة، مثلما هو الحال في قضية عُمر، التجسيد الأكبر لمقولة أن السلطة الحقيقية الوحيدة في البلاد اليوم هي سلطة الأجهزة الأمنية، وأنها سلطة متعسّفة وساخرة من القانون ومن العدالة ومن الحقيقة.