يقابل الناس عادة بين النخب وباقي الجمهور في العلاقة بالخبز. فيقال كثيرا أن النخب تهتم بالحريات أكثر من اهتمامها بالخبز، وأن الجمهور لا يحتاج الحريات إذا لم يكن هناك خبز. اعتقادي أن الجزء الثاني من العبارة صحيح، في حين تثير الممارسة شكوكا كبيرة في دقة الجزء الأول. حتما، يحتاج الجمهور الحريات أحيانا ليمكن له القول بأنه يحتاج الخبز، وأنه يريد تفسيرا لندرته وغلاء أثمانه. لكن الأولوية، حتى وهو يمارس تلك الحرية في التعبير عن الحاجة للخبز، تبقى للخبز. هذا أمر مفهوم، ولا يمكن لوم الجمهور عليه.
أما النخب، فهي من حيث تصنيفها، لا يفترض أن تطرح موضوع توفر الخبز. هي بالذات مصنفة نخبا لأنها حققت رفاهية تسمح لها بإعادة ترتيب أولوياتها الحياتية، وقلب هرم ماسلو على رأسه. أقول يفترض، لأن هناك فارقا كبيرا بين الخبز وكثير من الخبز. تفضح الممارسة أن التناقض بين الجمهور والنخب هو حول كمية الخبز وليس حول ضرورته ولا أولويته: الجمهور يبحث عن قليل من الخبز، في حين أن ما تبحث عنه النخب هو تكديس الكثير من الخبز. ليس هنا مجال تعريف النخب ولا الفوارق بينها ولا أسس انتمائها الاقتصادي والإجتماعي والثقافي. نكتفي هنا فقط بالتعريف الأكثر بساطة: النخب هي تلك الفئات التي حققت بحكم نشاطها أو انتمائها المهني والاجتماعي انعتاقا عن الجمهور الواسع وضمنت حدا من الرفاهية يسمح لها بالتفكير في قضايا البنية الفوقية.
عندما أقول أن الممارسة توضح ظواهر مختلفة عن تلك التي تقتضيها التعميمات السهلة، فإني أقصد هنا بالذات بعض المهن. في السياق العام المعقد الذي نعيشه اليوم، يأخذ سلوك بعض القطاعات أهمية خاصة في مزيد تعقيد الأمور. قد يكون الأمر ساريا على الإعلاميين، أو على رجال الإدارة، ولكنني أريد تخصيص المهن القضائية بالإهتمام، ومن بين هذه المهن، القضاة والمحامين.
مثل نجيب الشابي يوم 16 جويلية أمام قاضي التحقيق، وقبله مثل محامون آخرون، وسيمثل عدد آخر منهم لا محالة. في حالات سابقة، شهدنا سجن محامين في فبركات أمنية قضائية سريالية. يبدو أن توجه السلطة اليوم بعد استهداف خصومها السياسيين المباشرين، هو استهداف محاميهم. هذا أمر أصبح منهج حكم لا يثير أي تعجب في السياق التونسي الحالي. في المقابل، لا يحظى هؤلاء المحامون بدعم عمادتهم التي اكتفت في الغالب بدعوة السلطات لاحترام عدد من الشكليات القانونية، وكان ذلك على استحياء. الآن فقدت عمادة المحامين حتى استحياءها ذاك. تذكير رشيق بأن بودربالة لا يزال في عمادة المحامين، برغبة من أبناء القطاع الذين عبروا عن إرادتهم ديمقراطيا.
بطريقة أو بأخرى، فإن الأغلبية القصوى من المحامين تبدو راضية عن الوضع الحالي حيث لم تعد محاكمة زملائهم المترافعين في قضايا سياسية تثير لديهم أي تحفظات. عندما نتذكر كيف تمكن المحامون من منع إقرار ضرائب جديدة على نشاطهم في البرلمان زمن حكومة الشاهد، نفهم جيدا تلك الرغبة في الاستفادة من كل السياقات "لخدمة القطاع". هذه نخب تعتبر أن القطاع أهم من كل شيء، وأن الدفاع عنه يحتل أولوية كل شيء. لا أدري إن كانت حماية المحامي أثناء أدائه لمهام الدفاع لا تزال جزءا من مصالح المحامين وقطاعهم، ولكنني أجد الأمر منطويا على مفارقة كبرى: كيف يمكن الإحتجاج بالمصلحة المادية المباشرة أمام وظيفة المحاماة في المجتمع؟ وبالخبز قبل الحق والواجب؟ كان المحامون أكثر القطاعات التي استفادت من ديمقراطية "العشرية السوداء"، ومن "دستور العشرية السوداء". لم يبق من سواد العشرية في نهاية الأمر سوى لون "الروب" !
هل يصح الأمر على القضاة، عماد العدل وأساس حكم القانون؟ يصح وأكثر . لقد قبل معظمهم اليوم ما أريد لهم، وتخلوا في معظمهم حتى عن حقوق زملائهم الدنيا المنتهكة، ورضوا في الغالب بأن يتحولوا إلى مجرد متلقين لتعليمات الهاتف وقلم الرصاص. ببساطة، أصبحت عبارة "عندي صغار" كلمة العهد الجديد الأكثر تواترا في سياق اليوم البائس. عندما يقبل قاض بأن يظلم الناس حرصا على خبز يعود به آخر النهار لأبنائه، ألا يعلم أنه يطعمهم معه الهوان؟ عندما يخاف قاض من عصيان السلطة، فإن المشكلة ليست في السلطة. التخويف والترهيب جزء من ثقافة السلطة، لكن الخضوع للترهيب جزء من ثقافة الفرد.
لا أستطيع أن أقبل بفكرة أن الخبز أكثر قداسة من وظيفة إلهية كالقضاء بين الناس. هذا أمر يتجاوز قدراتي الذهنية والإنسانية، وأحسب أنه ينبغي أن يتجاوز قدرات الجميع. أعرف قطاعات مهنية في أسفل الهرم الاجتماعي كانت أكثر حرصا على احترام وظيفتها الاجتماعية من قطاعات أخرى يفترض أن تقوم عليها الدولة، والمجتمع، وحقوق الناس. كيف يمكن لقاض خائف أن يحكم بالعدل؟ وإذا لم يكن القاضي حاكما بالعدل، ففيم وجوده؟ هل هو الخبز مجددا؟ أحسب أنه الخبز المسكين مرة أخرى. في نهاية الأمر، ومجددا، العشرية ليست سوداء، "الروب" هو الأسود.
ينتدب الإستبداد اليوم أكبر المدافعين عنه والمرسخين لسطوته من بين القضاة والمحامين. هذا ليس بالضرورة دليلا على أن القطاعين ميؤوس منهما، بل دليل على أن الإستبداد يملك أحيانا عقلا. في نهاية الأمر لا يحتاج أي استبداد سوى إلى حفنة أو حفنتين من هؤلاء، وذلك أكثر من كاف في الحقيقة. بعد ذلك تسير الأمور في الغالب نحو وجهتها المحتومة. لا يمكن لوم الحفنة والحفنتين، ما يستحق اللوم هي عقلية السير المحتوم نحو الوجهة السوداء. تعرية المجتمع من الثقة في قيمة العدل، ووضعه مكبل اليدين والفم أمام غول السلطة المطلقة، هي الكارثة العظمى. يؤدي انهيار الأمان القضائي عاجلا أو آجلا إلى انهيار الأمان الاجتماعي، حيث يتوجه الناس للبحث عن حلول خارج ما هو متعارف عليه، وبعيدا عما يحفظ كيان المجتمع.
إن الضحية اليوم أكثر من محام مسجون، وأكثر من قاض ينتظر التعليمات: إنه قدرة هذا المجتمع على الإستمرار بعيدا عن القيم التي وقع تأسيسها من أجل أن يستمر. عندما يتهاوى كل ذلك أمام الخبز، وأمام أبناء نعتقد أن كل ما يحتاجونه هو قليل أو كثير من الخبز، فنحن أمام جريمة إبادة ليس للقيم فقط، وإنما للمجتمع، ولو كان ذلك المجتمع قد فقد بعد ثقته في القيم. في نهاية الأمر مجددا، العشرية قد تكون سوداء قليلا، لكن خبزهم أسود كثيرا !