لا يشك أحد من المتابعين للشأن السياسي اليوم أن استثناء الإسلاميين المعتقلين في "المؤامرات" المفترضة على أمن الدولة من حملات التضامن السياسي والحقوقي مع المستهدفين بالاعتقال منذ أشهر، يكاد يصبح هو السلوك الاعتيادي في الساحة التونسية. في الحقيقة، يشمل الأمر حتى حلفاء الإسلاميين السابقين، ما عدا استثناءات محدودة.
مع ذلك، يعترف غير المتضامنين أن الأمر يتعلق على الأغلب بفبركة أمنية وقضائية تهدف إلى احتجاز القيادات الإسلامية في السجون لأسباب سياسية تتعلق بالسلطة الحالية وارتباطاتها المعقدة ببعض التوجهات اليسارية وكذلك بالأجهزة. يخفي غياب التضامن تناقضات عديدة، حيث يبدو السلوك غير مقنع حقوقيا ولا حتى سياسيا. في مؤتمر أخير لأحد الأحزاب الديمقراطية التونسية، وقع استثناء قيادات حركة النهضة المعتقلين، في تهم مشابهة للتي اعتقلت على أساسها قيادات ديمقراطية أخرى، من أي إشارة تضامن، وبدا الأمر خليطا بين نوع من التبرؤ السياسي والنكاية ذات الجذور السياسية أيضا. في الحقيقة، هذا لا يمثل أي استثناء عن السلوكات السائدة إجمالا إزاء هذا الموضوع.
بغض النظر عن كل المبررات التي تقدمها السلطة الحالية لاستهداف من تعتبرهم خصومها، وبغض النظر عن الأشكال الأمنية والقضائية التي يتخذها هذا الاستهداف، فإن غياب التضامن مع القيادات الإسلامية المعتقلة (في قضايا مشابهة، لنكرر التأكيد على ذلك)، يفضح سلوكا لا ديمقراطيا للأحزاب التي يفترض أن تكون ديمقراطية.
إن الحقوقية صنو الديمقراطية، فلا يمكن أن تكون ديمقراطيا إذا لم تكن حقوقيا، لأن الديمقراطية قائمة بالأساس على الحقوق. لنذكر بهذا المبدأ البسيط الذي يبدو أنه أصبح، هو الآخر موضع شك لدى الكثيرين اليوم. إذا لم تكن هناك قناعة لدى الديمقراطيين في استقلالية القضاء عندما يتعلق بما يعتبرونه فبركة ملفات ضد قياداتهم، فلماذا يعتبرون أن القضايا، عندما تشمل الإسلاميين، نابعة من قرار قضائي مستقل؟
في الحقيقة هم لا يعتبرونه كذلك، لكنهم فقط لا يقولونه. السؤال هو لماذا لا يقولونه: الجواب ببساطة أنهم يريدون التبرؤ ممن يعتبرونهم مسؤولين عن "سواد" العشرية، ومن أي اقتراب منهم قد يقع تأويله، ليس من السلطة ولكن من عموم الناس، بأنه نوع من التعاطف مع الإسلاميين. هناك سبب آخر لا يقل قيمة في تفسير هذا السلوك: أنهم كانوا إلى حد قريب في خصومة دامية معهم، قبيل الخامس من عشرين جويلية على وجه التحديد.
في نهاية الأمر، يتعلق الموضوع باعتبارات سياسية ليس للحقوقية فيها أي دخل. هذا يعني ببساطة أن الأمر يتعلق بأحزاب غير مستعدة لتحمل أعباء الالتزام بالموقف الحقوقي المبدئي، بغض النظر عن الأثمان السياسية لموقف مماثل. يقول هؤلاء في معرض بحثهم عن راحة الضمير، أن الإسلاميين مسؤولون عما وصلنا إليه اليوم، وأنهم غير ديمقراطيين، وأنهم لا يؤمنون بالحقوق. طيب، لنفترض جدلا وبلا تنسيب أن ذلك صحيح، هل يكفي ذلك لتبرير إعراضك عن المبدأ العام، وهل تعتبر أن عدم ديمقراطية وحقوقية خصمك مبرر كاف لتحولك إلى غير ديمقراطي وغير حقوقي؟ هذا في الحقيقة ظرف تشديد، حيث يفترض أن انتماءك للمبدأ الديمقراطي والحقوقي يزيد قوة طالما كان خصومك ومنافسوك غير ديمقراطيين وغير حقوقيين. بطريقة أو بأخرى، يفتح هذا السلوك أمام السلطة الحالية طريقا سريعة وواسعة جدا لزيادة الانتهاكات ليس ضد الإسلاميين فحسب، بل ضدك أيضا. فقد صمتت عندما كان يجب أن تتكلم، وتخليت عن المبدأ لفائدة حسابات الجمع والطرح، عندما كان عليك أن تنتصر للمبدأ الرئيسي: إن أي انتهاك للحقوق يبقى انتهاكا للحقوق مهما كان ضحاياه.
هناك استئصال صامت يحدث اليوم لقيادات حركة النهضة، وهذا الاستئصال يتم بنفس الأدوات الأمنية والقضائية التي استعملت وتستعمل اليوم ضد خصومهم السياسيين والإيديولوجيين. هذه مجرد ملاحظة موضوعية مسطحة لوصف الوضع الحالي. في عدد من القضايا التي ترفع ضدهم (مثال الصحبي عتيق الذي يخوض تحت الاعتقال إضراب جوع وحشي منذ شهر، ما يضع حياته على المحك)، يتحول الأمر إلى سريالية لم تبلغها إلا أعتى الأنظمة الاستبدادية، ليس في تونس فقط، بل حتى في عدد من الدول التي توقف الناس فيها عن الحلم بالحقوق السياسية البسيطة. الصمت عن هذه الانتهاكات بدعوى الخصومة السياسية، واستثناء الإسلاميين من حملات التضامن ليس، بطريقة أو بأخرى، إلا نوعا من الشراكة في هذه الانتهاكات. الأمر بسيط ومنطقي في أي ذهن يتمتع بحد أدنى من النزاهة. لكن الديمقراطيين لا يتعلمون. إنهم ينافسون الإسلاميين ويتفوقون عليهم في عدم الاستعداد للتعلم، حتى عندما يتعلق الأمر بمعادلات رياضية بسيطة.
في المقابل، يبدو لي موقف المدافعين عن السلطة الحالية في سلوكها ضد المعارضين، أجدر كثيرا بالاحترام. هؤلاء لا يميزون بين خصوم الرئيس، وعندما يبررون انتهاكا معينا، فإنه يقع التعبير عن ذلك تقريبا بنفس المفردات وبنفس بناء الجملة. هذا يعني ببساطة أن السلطة الحالية سائرة في طريق الاستبداد وانتهاك الحقوق بغض النظر عن أسماء خصومها وعناوين إقامتهم ولون عيونهم. في مثال الإسلاميين، تحقق سلطة قيس سعيد هدفا إضافيا: إنها تجمع حولها هاتفين ومشجعين أكثر، بل إن بعض هؤلاء يشجعون بالصمت: إنهم الديمقراطيون والحقوقيون !
تتطلب الديمقراطية، عكس ما قد يوحى به، شجاعة كبيرة. هذه الشجاعة لا تتمثل فحسب في مجابهة السلطة واستبدادها في سياق ديكتاتوري، بل في القدرة على مجابهة انتهاك الحسابات السياسية للمبدأ الديمقراطي.
طيلة عشرية كاملة، كان السلوك الديمقراطي أمرا لا يكلف شيئا، بل إن ذلك أدى في حالات كثيرة إلى ديمقراطية الأنذال. هذا ما يجعل تغير السياق السياسي العام اليوم كاشفا وفاضحا: لقد وقع فرز كبير، وهذا الفرز يزيد وضوحا اليوم في الموقف إزاء انتهاك حقوق الخصوم السياسيين. في الحقيقة ليس ما يهمني هنا موقف الشعب أو الشارع، ولا موقف أنصار الرئيس ولا الرئيس والأجهزة، بل موقف الديمقراطيين الذين لا زالوا يقترحون أنفسهم كبديل للسلطة الحالية : يملؤون الكون صراخا عندما تستهدف قياداتهم، لكنهم يخرسون تماما عندما تستهدف نفس السلطة، وبنفس الأدوات والسيناريوهات، خصومهم الإسلاميين. الخيبة فيكم أكبر من كل الخيبات !