هل أصبح السلوك العادي اليوم في تونس ألا تؤخذ السلطة الحالية على محمل الجد؟ بين اكتشاف مؤامرة على أمن الدولة وأخرى، هناك دومًا مؤامرة على أمن الدولة. أضحت المؤامرات بعدد المقاهي، أو تكون كذلك قريبًا جدًا إذا واصلت الأمور التطور على النسق الذي خبرناه.
لقد أصبح بإمكان أي مواطن أن يحرر "وشاية" (السلطات تسميها دائمًا كذلك)، تتضمن أكثر المعطيات خيالية وبعدًا عن المنطق، لتفتح في شأنها قضية تحقيقية، وتنطلق آلة البوليس والقضاء، وتتكدس الأسماء، في انتظار المرور إلى وشاية أخرى وقضية أخرى.
لم يكد التونسيون يستفيقون من قضية تآمر على أمن الدولة تورط فيها هنري كيسنجر (قبل أو بعد وفاته، لم يعد الأمر مهمًا) الذي يبدو أنه كان مهتمًا جدًا بإفشال الانتخابات المحلية الأخيرة، حتى فتح تحقيق (في الأسبوع نفسه) ضد متآمرين آخرين كان على رأسهم بنيامين نتنياهو الذي يبدو أنه زار تونس سرًا على متن غواصة والتقى بزعماء معارضين في العاصمة ثم في بنزرت، قبل أن يقفل راجعًا للأراضي المحتلة.
لقد فتح في كل قضية بحث تحقيقي. بلغت الوشاية السلطات الأمنية التي استمعت للوشاة باهتمام كبير فيما يبدو، ثم أحيل الملفان على القضاء، وبدأ ذكر بعض أسماء المعارضين (يبدو أن عددًا من هؤلاء كانوا أصلًا في السجن في قضية أو قضيتي تآمر قديمة أثناء أحداث المؤامرتين الجديدتين).
بالنسبة لأنصار السلطة الذين وقع تمكينهم من مقاعد قارة في وسائل الإعلام فقط بسبب مساندتهم للسلطة، كان بالإمكان ملاحظة الحرج الشديد على تدخلاتهم بمناسبة المؤامرتين الجديدتين. أن يجد "إعلامي" مساند للسلطة حرجًا في الدفاع عن السلطة، فهذا تحول عظيم ينبغي التوقف عنده: لقد بلغت قلوبهم حناجرهم بالفعل، ولم يعد بالإمكان تحمل المزيد من السخرية التي تواجه بها تدخلاتهم في الرأي العام. لكنهم وجدوا الحل: ما يقع من إثارة "قضايا غير جدية" هدفه تمييع المؤامرات الحقيقية (يقصدون بذلك المؤامرات التي يقبع معارضون بسببها في السجون منذ أزيد من عام)، والإساءة إلى الرئيس.
وبالرغم من أن هؤلاء لم يطلعوا على "ملف القضية"، وأنهم لا يعرفون من تفاصيلها سوى بعض الشذرات التي نشرت في الإعلام، فقد كانوا على بكرة أبيهم جازمين: هناك مؤامرة على الرئيس هدفها تمييع الثقة في القضاء.
الحقيقة أن السلطة تواجه اليوم إحدى نتائج سياستها تجاه القضاء والحياة السياسية على حد سواء. وهي نتائج لم تتوقع، لنقص حاد في الخيال والتوقع، أن تكون على الشكل الذي تبدو عليه اليوم. إن التصرف القضائي في الخلافات السياسية، وإحالة أمر المنافسين والمعارضين للمحاكم، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى انفلات السلطة، أي سلطة، وتغولها على الجميع. هذا ما يحدث مع سلطة قيس سعيّد اليوم، حيث تقع التغطية على الفشل الفادح في تحصيل شرعية شعبية تعبر عنها مشاركة محترمة في الانتخابات، بخلق أعداء تلصق بهم كل التهم، حتى ولو تطلب الأمر استقدام نتنياهو على غواصة إلى ميناء رادس التجاري.
كذلك فإن المجزرة القضائية التي أسقطت فكرة القضاء المستقل، وعمليات الإقالة خارج التراتيب والهياكل القانونية العادية، وكذلك التسميات في المحاكم، وتفرد الإدارة بكل المرفق القضائي، والهجمات التي شنها الرئيس شخصيًا على القضاة الحريصين على احترام الإجراءات وقرينة البراءة والقوانين، وتحول الرئيس إلى نيابة عمومية ومحقق وقاض ومنفذ أحكام، كل ذلك قد نجح في نهاية الأمر في وضع القضاة تمامًا في حالة ضعف وضياع.
لم يعد لقاضٍ، ولو ممثل للنيابة العمومية، أن يغامر بإنكار الصبغة المنطقية في قضية متعلقة بأمن الدولة، فمن يدري؟ لعله يصبح هو نفسه متهمًا بالتستر على الجناة، وقد يجد نفسه معزولًا أو مسجونًا.
عندما تصل أي سلطة إلى مرحلة التغول، وتلقي بخصومها ومعارضيها في السجن أو المنفى، تجد الأجهزة نفسها في مرحلة طرح السؤال التالي: والآن؟ تعرف الأجهزة جيدًا أنّ حاجة السلطة لها أمنية بالدرجة الأولى، وأن نهاية التهديدات على أمن السلطة تعني ببساطة تراجع حاجة تلك السلطة لها. هذا أمر منطقي تعرفه الأجهزة وقادتها جيدًا.
يزيد الأمر تعقيدًا عندما تعبر السلطة نفسها عن الحاجة لوجود مؤامرات جديدة في كل مرة، أو عن قناعتها بأن هناك دومًا مؤامرة ما في مكان ما. هذه نقطة الالتقاء بين السلطة والأجهزة.
عندما لا يكون للرئيس حزب وأناس يثق بهم لتعديل سلوكه السياسي، أو لتنسيب تصوراته عما يجري، فإن تلك الأجهزة نفسها تتحول إلى نوع من الحزب، حيث لا تكتفي بتنفيذ ما يطلب منها كما هو الأمر في كل دولة عادية، بل إنها تصبح مستشارة وصاحبة قرار، فتكسب ثقة متعاظمة في نفسها تدفعها في مرحلة ما للاعتقاد بأنها هي السلطة الحقيقية، تلك التي لا يمكن للسلطة أن تعيش يومًا من دونها. يزيد هذا الاعتقاد ترسخًا كلما فشلت السلطة في حل المشاكل الحياتية للناس، أو في تحقيق التفاف واسع حول برامجها السياسية والانتخابية، حيث تصبح أكثر هشاشة، وبالتالي أكثر تعويلًا على الأجهزة.
هذا هو سياق حمى المؤامرات اليوم، ذلك الذي بدأ ذات يوم بادعاء مديرة مكتب رئيس الجمهورية التعرض لمحاولة اغتيال بظرف مسموم. لقد نشأت أول قصص المؤامرات داخل القصر الرئاسي، ووضع أركانها ومنطقها العام أكثر معاوني الرئيس قربًا منه.
ما يحصل اليوم، وقد وصلنا المؤامرة الرابعة عشر في أقل من أربع سنوات (هناك من يقول إنّ هناك مؤامرة كل شهرين، وهو للحقيقة معدل مرتفع جدًا حتى بالنسبة لدولة كتونس) أن القضاة الذين أنهكتهم السلطة قد أصبحوا يميلون لأخذ كل شيء مأخذ الجد خوفًا من أن يطالهم غضب الرئيس هم أيضًا، وأن هناك أجهزة تعرف أن ما يجري مجرد عبث، وأن هناك سلطة وقعت في أحد الفخاخ التي نصبتها بنفسها، وأن أنصار الرئيس أنفسهم، أولئك الذين لا يحرجهم في العادة شيء، قد غدوا محرجين.
عندما تتمعن في الصورة جيدًا، فإن تغول السلطة يصبح مجرّد انطباع، وأن مؤشرات عديدة تقول إنها هي الأخرى، إلى جانب العقل والمنطق، مجرد ضحية لواقع أسوأ بكثير مما يمكن أن يأخذنا إليه خيالنا. لقد سلمت السلطة نفسها للأجهزة منذ قررت أن تنجز "انتقالها الثوري العظيم"، ومنذ اعتقدت أن القضاء مجرد وظيفة في خدمتها، وأن الدولة هي الرئيس، وأن الرئيس قادر بمفرده، وبمجرد انطباعات عامة، أن يملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا. دولة اليوم هي الأجهزة. لقد كان بالإمكان توقع أن تصل الأمور إلى هذا الوضع، وضع العبث المدروس، منذ البداية.