عاد الرئيس مجددا للحديث عن مؤامرة جديدة بمناسبة أزمة تزود المخابز بمشتقات الحبوب اللازمة لصناعة الخبز، والتي انعكست أزمة تموينية ظهرت في الأيام الأخيرة بعدة مناطق من ولايات الجمهورية. قال الرئيس بمناسبة زيارته لوزارة الفلاحة أن على الجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم، مشيرا إلى موضوع ديوان الحبوب. في نفس اللقاء تحدث وزير الفلاحة عن أزمة التوزيع، مشيرا إلى دور وزارة التجارة، في حين قالت وزيرة التجارة المعينة حديثا بأن الأمر سببه لهفة التونسيين على الخبز. نحن نملك الآن ثلاث وجهات نظر رسمية حول نفس الموضوع، وهو سبب اضطراب تموين المخابز. رسميا أيضا، فإن ما يعتد به ليس المنطق الكامن وراء كل وجهة نظر، بل مكانة قائلها. هنا بالذات، لا يعلى على تفسير رئيس الجمهورية، حيث يملك السلطة المطلقة في كل المواضيع، من الدستور إلى الخبز.
هل يكفي القول بأن صابة الحبوب كانت شبه منعدمة هذه السنة؟ وأن هناك إشكالا في توفير العملة الصعبة الضرورية لتوريد الحبوب؟ وأن المزودين أصبحوا بفعل أزمة السيولة التونسية يشترطون الخلاص المسبق للشحنات، وأن الاتفاقية التي عقدتها تونس مع عدد من المؤسسات المانحة لتمويل المشتريات من الحبوب الأجنبية قد انتهى أجلها، وأن الدولة قد استوردت أقل بكثير من حاجيات البلاد، وأن كل ذلك أدى، مثلما يتوقعه أي شخص، إلى اختلال ميزان العرض والطلب فتسبب في أزمة تموين؟ لا. كل ذلك لا يكفي أبدا.
يتفق معظم دارسي الشعبوية على أن اعتناق نظرية المؤامرة عنصر قار في طريقة استدلال الشعبويين، بل إنهم يعتبرون ذلك أحد العناصر الرئيسية في تصنيفهم كشعبويين. يذهب بعض هؤلاء الدارسين أكثر من ذلك في الحقيقة، حيث يعتبرون أن الشخصية البارانوية هي مميز رئيسي في تشكيل الشخصية الشعبوية. يبدو كل شيء صعب الفهم، بناء على ذلك، نتاج مؤامرة ما، من جهات ما، في مكان ما. إن تقديم الأزمات على هذا الشكل يعفي من الاستدلال المنطقي، ومن الدراسة المرهقة للظواهر، ويقدم في نفس الأمر ما يريده الشعبويون تماما لجمهورهم: تفسيرا مبسطا يعفيهم من المسؤولية أولا، ويسمح لهم بمواصلة حروبهم ضد من يعتقدون أنهم خصومهم، والاستمرار في التمتع بحالة من الرضا العام الناتجة عن تنفيس طاقة الكراهية التي يسمح بها توفير أكباش الفداء.
ذهبت إحدى الدراسات إلى أكثر من ذلك في الحقيقة، بالتأكيد على أن هناك مشكلا في علاقة الشعبويين بالأرقام. الحقيقة أن ذلك صحيح جدا من خلال تجربة السنتين الأخيرتين بالذات في تونس. يتطلب التعامل مع الأرقام درجة من المنطق الرياضي والاستعداد القبلي لاحترام العلم، وقبل ذلك كله مستوى جدية في تناول القضايا التي يتطلبها وضع الأزمة. هناك جهد لا يرغب الشعبويون ببساطة في بذله، لأن أفكارهم جاهزة وصالحة لكل زمان ومكان، بل وللبشرية جمعاء. الأمر يتعلق ببساطة بمقاربة جديدة يسميها البعض مقاربة النعامة حيث يتغير الواقع وتحل المشاكل بطريقة أفضل كلما غرست رأسك في الرمل أكثر.
إن نظرية المؤامرة تسمح فوق ذلك بنتيجة أكبر وأهم: هي تسمح للشعبويين أن يحتلوا موقع الضحية حتى عندما يكونون في الحكم. يتوجه الشعب عادة للحاكمين بطلب حل أزماتهم، ويسمح ذلك لنفس الشعب بتقييم الجهد الذي يبذله حكامه من أجل حل تلك المشاكل، فيقرر، في نظام ديمقراطي عادي، إما إعادة انتخابهم إذا نجحوا، أو إزاحتهم من الحكم عبر الانتخابات إذا ما قدر أنهم فشلوا. ماذا يفعل الشعبويون إذا: يتهمون غيرهم بأنهم يعيقون النجاح في حل المشاكل والأزمات. إن المتهمين، الذين يكونون في هذه الحالة إما معارضين أو نخبا اقتصادية، يصبحون هدفا لكراهية الجمهور، فيتحقق بذلك للشعبويين نجاح جديد: الإفلات من تحمل المسؤولية، وتوجيه غضب الناس نحو خصومهم، وعدم بذلهم في خضم كل ذلك أي جهد. هذه هي طريقة الحكم بالمجان.
المشكل أن ذلك يؤدي إلى تراكم المشاكل، وإلى تعقد الأزمات التي يتعاظم تأثيرها شيئا فشيئا حتى تستعصي تماما على الحل. هذا ما يبدو أننا قد وصلنا إليه اليوم في تونس. مع ذلك، لا ينبغي استسهال بعض الأحكام: هذه الأزمة ليست نتاج سياسة الرئيس قيس سعيد، بل هي أقدم منه بكثير. لكنها تزداد حدة بسياسة الرئيس قيس سعيد الذي لا يريد أو لا يرى ضرورة للاعتراف بأن حلها غير ممكن بتبني نظرية المؤامرة فحسب. يعول الشعبويون باستمرار على توجيه اهتمام الجمهور الوجهة التي تجعلهم في موقع اللامسؤولية، حتى ولو كانوا هم من يحكمون ويحتكرون كل السلطات. يؤدي ذلك إلى برمجة الشعور العام وزيادة توتر الجموع ضد خصومهم ومنتقديهم، وإقناعها بأن الأمر يتعلق في الحقيقة بخصوم وأعداء الشعب الذين ينكلون به ويمنعونه من التقدم إلى الأمام بافتعال الأزمات والتآمر على غذائه ومستقبله. ينجح الأمر في معظم الحالات لسبب بسيط، وهو أن الشعبويين يركبون في الأصل موجة مزاج ضد النخب، وأنهم وصلوا للحكم بفضل ذلك المزاج، بل وأن بقاءهم في السلطة هو رهين المحافظة عليه. يستوجب ذلك صناعة الكراهية، وتوجيهها، ثم الإبقاء عليها متقدة في الاتجاه المطلوب. ميكيافيلية كلاسيكية واحتيال كامل الصفات.
عندما يتحدث قيس سعيد عن معركة التحرير الوطني ضد أعداء الشعب، فإنه يقصد في الغالب جزءا من نفس الشعب. هذا الجزء يقع تحديده بصفة مسبقة في دائرة النخب، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. من المهم أن نشير إلى أن الأمر يتعلق بفئات قررت دائما الوجهة التي يجب أن تأخذها قرارات الدولة، منذ تأسيس الدولة قبل قرون عديدة. تناسقا مع هذه الرؤية، لا يقوم الشعبويون بتشريك هذه النخب في وضع تصورات لحلول ما لأي مشاكل أو أزمات، بل يجتهدون في إقصائها والتضييق عليها إلى حد نفيها تماما وتقديمها - فيما عدا استثناءات قليلة تتعلق غالبا بعناصر انتهازية من داخل هذه النخب قررت الانسياق في الموجة الجديدة- كهدف للحقد العام. إن عملية انتزاع الجمهور من سيطرة النخب هو أحد الأهداف الكبرى للسلوك الشعبوي. لكن المشكل الأساسي هو أنه لا يمكن تصور حلول للأزمات، خاصة عندما تحتد وتنتشر، خارج دائرة ما يمكن أن تجده تلك النخب ذاتها من حلول تستمدها من فهم عقلاني للإشكالات وإدراك للتوازنات الاقتصادية والمالية. تتحول النخب لدي الشعبويين إلى أغلبية يقع إقصاؤها، وأقلية قررت خدمتهم بإتباع تعليماتهم دون أي اجتهاد أو نصيحة، فتكون النتائج هي نفسها في كلا الحالتين: بقاء الأزمة على ما هي عليه، ثم تفاقمها، ثم انسداد أي إمكانية لتجاوز مضاعفاتها.
بالموازاة مع ذلك، تتطلب أي حرب، إذا استعملنا المعجم الشعبوي، نوعا من وحدة الشعب تجعله قادرا على توظيف كل إمكاناته لمواجهة تفاعلاتها. يتناقض ذلك حتما مع التقسيم العمودي للمجتمع الذي يعتنقه الشعبويون، بإلقاء النخب في دائرة الإقصاء والاستفراد بالجمهور. وهكذا يصبح الشعبويون هم من يقودون هذا الجمهور المتحمس والمتوتر في المعركة، لكن ما يحصل هو أن هذه القيادة تصبح بيد أشخاص لا يعرفون شيئا من فنون الحرب، بل يرفضون اعتبار أن الحرب تتطلب جمعا وطرحا وقسمة، واختيار الميدان والتوقيت والطقس وطبيعة الأرض واتجاه سير الجيوش. إن ما يكتفون به ويستميتون في التمسك به، هو بالذات تلك القيادة. هذه هي الحرب الحقيقية، أما المعركة فإنها لا تندلع أبدا.
هذا توصيف مجرد لما يقع اليوم في "معركة الخبز" أو مؤامرة الخبز". إن تبني الشعبويين لنظرية المؤامرة هنا بالذات ليس تبنيا إعتباطيا. يتعلق الأمر بسياسة واعية، ليس بالمشكل بالضرورة ولكن بما يريدون حقيقة. لا يختلف الشعبويون عن غيرهم من السياسيين، ولا تمثل وعودهم بسياسة جديدة ومقاربة جديدة، سوى الجزء البلاغي من إحتيالهم التاريخي على الجمهور. إن تبني المؤامرة يعفي الشعبويين من طريق طويل وشاق، يبدأ بفهم المشكل فهما علميا وينتهي بالمحاسبة على النجاح أو الإخفاق. العنصران مرفوضان لديهم تماما، وهذا الرفض واع وذو هدف: الحكم بمفردهم باستغلال إحباط الجمهور، وتوجيه الحقد الناجم عن هذا الإحباط تجاه خصومهم السياسيين لإفراغ الساحة تماما من أي قوى أخرى قد تكون لها أفكار أخرى. في الأثناء يتواصل التعامل مع تبنيهم للفكر التآمري باعتباره دليلا على سذاجتهم السياسية، بل حتى إلى براءتهم من أي خبث. هذا خطأ جسيم. الشعبويون ليسوا من السذاجة في شيء، من الخبز إلى الدستور.