من اللافت اليوم في سياق الحرب الظالمة والوحشية على غزة ملاحظة طبيعة الغطاء السياسي الذي تقدمه الدول الأوروبية للمجازر الصهيونية البشعة على الفلسطينيين والتي وصلت إلى حد تبرير التطهير العرقي والإبادة الجماعية. بالنسبة لدول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وبالنسبة لكبار المسؤولين الأوروبيين الذين يمثلون هياكل الإتحاد الأوروبي لم يستغرق التعبير عن الإصطفاف الكامل إلى جانب الكيان في حربه الحالية سوى بضع ساعات. لقد كانوا في تل أبيب بعد هجمات 7 أكتوبر مباشرة، مبدين تعاطفهم مع "الشعب الإسرائيلي" ومانحين، دون أي تحفظ، كل الحقوق لحكومته من أجل "الرد على الإرهاب"، بكل القوة الممكنة. إن رؤيتهم يتوافدون على مطار بن غوريون، بل ويتنافسون أيهم الأسرع وصولا إليه، مثير.
الحقيقة أن جيل اليوم يكتشف ذلك بنوع من التعجب، لكن الأجيال الأقدم تعرف جيدا أن الأمر لا يتجاوز تكرارا لمشاهد قديمة. في كل منعرجات الصراع بين الفلسطينيين والكيان الغاصب، كانت مواقف الأوروبيين هي نفسها دائما. بل حتى عندما كان الأمر متعلقا بلبنان أيضا. هناك إلتزام أوروبي دائم بمساندة إسرائيل، وهذا الإلتزام يتجاوز بكثير المبررات الدينية أو حتى الجيوستراتيجية بالرغم من الأهمية الكبرى لهذين العاملين.
نشأت الصهيونية بالأساس في أوروبا، ووجدت الدعم الرئيسي لها في أوساط نخب المال والأعمال والسياسة في هذه الدول منذ نهايات القرن التاسع عشر. وإذا كان انتظار نضوج الظروف السياسة الدولية هو الذي جعل هذا الدعم ضعيفا في البداية، فإن تملك الأوروبيين بمصير المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عبر فرض الإنتدابين الفرنسي والبريطاني على المنطقة التي قسمت دولا وأقاليم، قد أنتج تعاظما في هذا الإلتزام.
فكريا، نشأت الصهيونية كرد فعل على فشل اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، وفي سياق الحمى القومية التي ظلت تهز أوروبا خلال القرن التاسع عشر بالخصوص. إن تصاعد الفكرة الصهيونية قد تزامن مع تصاعد الفكرة العنصرية التي ستسمى "لاسامية"، وهي فكرة ذات منشأ أوروبي حصريا. وبغض النظر عن كتلة العوامل المعقدة التي نشأت في خضمها اللاسامية، كرد فعل ثقافية ودينية وعرقية وقومية، فقد كان الأمر يتعلق بالتأكيد بشعور مخترق للمجتمعات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يكفي أن نعرف أن تصاعد الشعور بالعداء لليهود قد عرف أوجه في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين بالخصوص، أي في البلد الذي كان اليهود فيه أكثر إندماجا وتشبعا بالثقافة الأوروبية.
هل أنتجت العنصرية الأوروبية الظاهرة الصهيونية؟ يميل التحليل التاريخي الكلاسيكي لتأكيد ذلك، من خلال التدليل بأن تصاعد العنصرية الأوروبية ضد اليهود قد أدى لنشأة الفكرة الصهيونية. لكن الأمر، بالتحليل الثقافي والفلسفي، أكثر تأكيدا على تساوي الظاهرتين من حيث نشأتهما عن نفس الثقافة، وليس اعتبار الثانية مجرد نتيجة منطقية للأولى. نقصد بذلك أن الصهيونية مجرد تنويع تفصيلي ناشئ، مثل النازية تماما، عن طبيعة الفكر الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. الأمر لا يتعلق إذا بسبب ونتيجة، بل بظاهرتين ناشئتين عن نفس المنبع الأم.
هناك أدلة كثيرة على ذلك في تبريرات الحركة الإستعمارية الأوروبية التي نجد أنها نفسها تقريبا بالنسبة لتبرير تركيز المشروع الصهيوني في فلسطين: التفوق الحضاري الأوروبي، وواجب نشر المدنية في الفضاءات التي تحكمها الهمجية. نزع الصفة الإنسانية عن الشعوب المستعمرة التي تفقد كل حقوقها الفردية والجماعية بمجرد تحقق الغلبة للمستعمرين الأوروبيين. ميكانيزمات الإستيطان وتوازيه دائما مع عنف استعماري بلا حدود يصل، دون أي شعور بالذنب، إلى حد المجازر في حق المدنيين العزل، والتطهير العرقي. هذه كلاسيكيات معروفة. ينبغي أن ننظر لتاريخ الإستعمار الفرنسي في الجزائر، ونقارنه بما يحدث في فلسطين منذ حوالي القرن، لنفهم أن الثقافة ذاتها هي التي كانت تتحرك على الأرض.
ليست النازية أيضا، مثل الإستعمار تماما، عدوة للصهيونية. ربما كانت عدوة لليهود، لكنها كانت حليفا موضوعيا للصهيونية ومبررا لدعايتها في أوساط يهود الشتات. هناك أحداث كثيرة وقعت في الثلاثينات تؤكد ذلك، إلى حد أنه عندما لم تكن هناك اعتداءات أو مجازر ضد اليهود في أوروبا وخاصة في ألمانيا، فإن العصابات الإرهابية الصهيونية كانت تصطنع بعضها لإرهاب اليهود أنفسهم، ودفعهم للوصول إلى الملاذ الآمن الذي كان يفترض أن تمثله "أرض إسرائيل".
في مسار صعودها السياسي، لم تكن النازية سوى حركة قومية ألمانية تهتم بترسيخ قاعدتها الفلسفية عن طريق مفاهيم النقاء العرقي والوحدة الثقافية والحدود. كان من تحصيل الحاصل أن تتوجه النازية إذا، مثل باقي الحركات القومية، إلى استهداف الأعداء المحتملين لهذه المفاهيم، ومن هنا جاء تصاعد العداء لليهود بوصفهم مهددين لمفهوم النقاء العرقي للشعب الألماني.
إن نفس المعجم العنصري الذي يصل إلى حد تبرير الإبادة العرقية يعاد تكراره اليوم ضد الفلسطينيين، ومن طرف الأوروبيين أنفسهم وليس من طرف قادة ومنظري الصهيونية فحسب. بالنسبة لمن يستطيع التعمق قليلا في المقارنات التاريخية، التشابهات والتطابقات صادمة بجلائها وموغلة في حدتها. يكفي النظر في طريقة تغطية الإعلام الفرنسي والألماني بالخصوص للحرب على غزة، حتى نعرف أن مقومات العنصرية الغربية لا تزال تفعل فعلها الكبير في الفكر الأوروبي، وأن نفس المصطلحات تقريبا تعود من جديد. يجتمع ذلك في المعادلة التي تتم بين الدماء، والتي تقول بلا مواربة أن الدم اليهودي أغلى من الدم الفلسطيني، وأن إراقة قليل من الأول تقتضي إراقة الكثير من الثاني، وأن ذلك محض عدالة. هذا كلام قديم قيل طيلة قرون قبل ظهور الفكرة الصهيونية ذاتها.
تجتمع في الصراع الدائر اليوم كل مقومات الحرب العنصرية التي تجد مبرراتها في الفكر القومي الأوروبي، بغض النظر عن لائكيته أو عن وجود عناصر دينية تدعم مبرراته عند الضرورة. الفكرة العنصرية الأوروبية أنشأت اللاسامية والصهيونية والنازية في اللحظة نفسها التي بدا فيها أن الأوروبي متفوق على الآخرين ومن حقه إخضاعهم أو إبادتهم. هذه قناعات شديدة الترسخ لا يمكن أن تمحي في قرن من الزمان، مهما بذل من جهد لمداراتها تحت غطاء "القيم الكونية".
لذلك فإن ما يقاومه الفلسطينيون اليوم ليس مجرد كيان مدجج بالقتل والدماء والسلاح، بل فكرة عنصرية أوروبية تجعل الشعوب كلها مجرد غنيمة للعرق المتفوق. المستوطنون اليهود في فلسطين اليوم يلخصون هذه الفكرة العنصرية لكنهم لا يحتكرونها، لأن منبعها الأصلي لا يزال متدفقا في القارة الأم، أوروبا. هذا ما يعطي الفلسطينيين اليوم التفوق الأخلاقي الذي نراه على الميدان والذي يعبر عنه صمودهم وقدرتهم على التضحية وحفر مصيرهم في صخر التاريخ: لقد أصبحوا يلخصون ببساطة نقيض تلك الثقافة الأوروبية التي كانت تصنع باستمرار العنصرية والإبادة والقتل، وتشكل العالم الظالم الذي نعيش فيه اليوم.