ها أن الشجرة تنزاح اليوم قليلا، لنرى الغابة بأكملها، مخضرة بالحقد، يانعة بالجهل، أقدامها السوداء في الأرض ورؤوس أشجار عارها في السماء . لكم أخجل من هذه الغابة، فقد اعتقدت أن الشجرة هي المدانة. مصيبتنا أكبر من مجرد شجرة.
قيس سعيد ليس المشكلة. قيس سعيد تلخيص للمشكلة. هذه المشكلة ستبقى هنا بعد رحيله، لأنها تقتات من كل سوء فينا، وتمد جذورها في دواخلنا المظلمة السحيقة.
كم أخجل وأنا أرى رئيس بلادي، هذه البلاد التي لم تنفك تنتج الحضارة والأفكار العظيمة، ينغرس في طين الكراهية، ويبدي للبشرية ما أفلح سنين في إخفائه من عنصرية. الأمر أصبح يهم البشرية اليوم. لقد تجاوز عارنا حدود رقعتنا البائسة.
كم أخجل من استجابته "لنبض الشارع" الكريه. كم أخجل من مباركته العليا لأفكار الحقد والبغضاء. كم أخجل من هذا الشارع، وكم أخجل ممن افتكوا منا حتى فخر الإنتماء لشيء اعتقدنا أننا لن نخجل منه يوما: خط الحضارة.
قيس سعيد ليس إلا عابرا ضمن عابرين، لكن له علينا فضلا كبيرا: لقد فتح أعيننا على كل القبح الكامن فينا. كشف أخيرا روحنا الجاهلية، حيث لم تكن الحضارة سوى قشرة رحلت بها أول ريح. كم أخجل ....
كم أخجل من الآلاف المؤلفة التي تنتظر أن يلقى إليها كل يوم بمن تنهش لحمه وعظمه، لا لجريمة، ولكن لإشفاء غليل لا يرتوي. كم أخجل منهم وهم يسخرون من حقوق الدفاع، وحقوق الإنسان. وهم يستهزئون بالحق والحقيقة، وقرائن البراءة، وآلام المظلومين. الشعب يحب القتل والدماء ويعشق أن يهان الناس أمامه، أن تمتهن كرامتهم، أن يلقى إليهم كل يوم بضحية جديدة.
كم أخجل من هؤلاء الذين ينتصبون معلمين لنا كل مساء على الشاشات، يقبضون من أجل إهانتنا، ومن أجل أن يقنعونا بأننا نستحق ما يحصل. وإننا فعلا لنستحق ما يحصل. كم أخجل منهم وقد تعلموا كل تلك الحروف بفضل تضحيات "الشعب" و"المدرسة العمومية"، ليأتوا بعد ذلك كله ليعلمونا غير ما علموا...هذا أيضا شعب، شعب من أين تؤكل الكتف...كتف نفس الشعب .
كم أخجل من كل أولئك الذين قضوا أعمارهم يتعلمون الحضارة ويعلمونها، يلقون حول الإنسانية دروسا بلا حد، ويحاولون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا الفوز بورقة إقامة ولو وقتية في إحدى دول الغرب، متحملين كل شتائم العنصرية وإيحاءاتها، وغياب العدل والحقوق، فإذا بي أراهم ينتجون اليوم نصوصا كان سيخجل منها رواد الفكرة العنصرية...كم أخجل من انزعاجهم من تقتير التأشيرات عليهم، من ثورتهم لكرامتهم أمام مكاتب التأشيرات، ثم عندما يعودون إلى بيوتهم مما يكتبون ضد "الأفارقة"... كم أخجل من عدم قدرتهم أن يروا أنهم هم أيضا أولئك الأفارقة …
كم أخجل من كل الفشل الذي راكمناه طيلة قرون...فشل يجعلنا اليوم عاجزين عن إدراك حدوده السحيقة حتى أننا نتساءل: فيم نجحنا بالتحديد؟ لم ننجح في شيء طالما لا نزال ننتج كل هذا الكم من الجهل والحقد والأنانية. لم ننجح في شيء طالما أن أستاذ حقوق الإنسان يصبح في لحظة من زمن أكبر عدو لحقوق الإنسان، وأن أستاذ التاريخ يصبح في لحظة منكرا للتاريخ، وأن أستاذ المناخ يضل في لحظة واحدة طريقه من صفاقس إلى الكونغو.
كم أخجل من كل هذا الإنحطاط، ومن كل هذه البداوة، وكم أود أن أعتذر... سينبغي أن نعيد كل شيء من جديد، وأن نذكر بأبسط مقومات الإنسانية والحق والحضارة، سينبغي أن نصارح الناس بأنهم ليسوا شعبا عظيما في شيء، وليسوا استثناء في شيء، وأنهم الغرائز في كل شيء، والقبح في كل شيء، والرداءة في كل شيء. أن غرورهم هو غرور الجاهلين، وأن تعصبهم هو تعصب البداوة البائسة تجري في الصحراء بلا هدف ولا دليل.
كم أخجل ممن سيقول لهم العكس، ممن سيزين لهم كل أمراضهم. كم أخجل من الحق الذي غدا غريبا، ومن العقل الذي هاجر بلا رجعة. كم أخجل من كل من أسس شيئا اعتقده صلبا، تركه أمانة بين أيدينا جميعا، ثم رحل مطمئنا أنه لا يزول. كم أخجل اليوم من كل هؤلاء جميعا....