منذ حوالي السبعين عاما، أي منذ إنقلاب المكتب التنفيذي للإتحاد في جانفي 1956 على أمينهم العام أحمد بن صالح، ورفته من الإتحاد بحرص مباشر من بورقيبة، عملت كل المكاتب التنفيذية للإتحاد بصفة منهجية على قتل ذكرى الرجل، على مسحه تماما من تاريخ الإتحاد. لا صورة واحدة له في أي من مقرات الإتحاد، ولا حتى ذكر لاسمه. كانت مهمة أنجزت بكثير من التصميم.
هناك هذه الأيام حرج شديد في صفوف النقابيين، وبالذات في المكتب التنفيذي للإتحاد، لقد تذكروا باستحياء أن الرجل كان أمينا عاما للمنظمة ولم يتجاوز عمره الثماني والعشرين عاما. جاء للإتحاد من جامعة الموظفين، ومن صلب التيار الحشادي الصميم. منذ مؤتمر الإتحاد لسنة 1956، وإصرار أحمد بن صالح على استقلالية المنظمة تجاه الحزب، ورفضه أي منصب وزاري، وامتعاضه من قبول بعض النقابيين حقائب وزارية، واصطدامه مع الرئيس بورقيبة، كان هناك قرار بإبعاد ابن صالح من قيادة الإتحاد مهما كانت التكاليف. كان قرارَ بورقيبة ولكن تنفيذه تم بأيادي نقابية. إنها نفس الأيادي التي أحرقها بورقيبة فيما بعد: أحمد التليلي والحبيب عاشور.
مغادرة ابن صالح الأمانة العامة بانقلاب المكتب التنفيذي عليه عندما كان في مهمة نقابية في المغرب الأقصى كانت خطوة البداية لمسار طويل من تدجين المنظمة. ما سمي بالتيار الواقعي والبراغماتي أخذ، بمساعدة الدولة، مكان التيار الإشتراكي الذي كانت له نظرة للبلاد وبرنامج للتنمية لم يكونا للحزب نفسه. كان الإتحاد في عهد أمينه العام أحمد بن صالح، رغم قصر مدته، هو صاحب البرنامج الإجتماعي والسيادي الوحيد. لاحقا، سينحصر العمل النقابي في التفاوض على فتات نمو بلا تنمية وبلا سيادة.
لقد اختار اتحاد ما بعد ابن صالح طريقه: النقيض الكامل للمنهج الحشادي وللمنهج السيادي وللكيان النقابي المستقل عن السلطة. لقد قرر خصوم ابن صالح أن يكونوا أيضا خصوم مستقبل كان واعدا للإتحاد.
والآن ألحقوا صورته على عجل بين صورتين. هذه هي الواقعية النقابية. يجب أن تقرأ هنا أن الواقعية هي كل شيء، ماعدا فكرة جميلة!
موضوع صور زعماء الإتحاد موضوع طويل: ليس ابن صالح فقط من وقع تغييبه ومحاولة قتل ذكراه، بل بلقاسم القناوي أيضا، زعيم جامعة عموم العملة التونسيين الثانية، الذي انقلب عليه رفاقه الدستوريين بقيادة الهادي نويرة في 1938 وأطردوه من مؤتمر الجامعة. لن تجد صورتيْ الرجلين أبدا لأن الزعيم كان غاضبا عليهما، ولأن السردية النقابية كتبت على خطى السردية الدستورية. الأمر يتعلق بسردية وطنية واحدة، السردية التي حكمت البلاد طيلة حوالي السبعين عاما، بشقيها النقابي والسياسي.
إن الجحود الذي واجهه أحمد بن صالح كان جحود رفاقه النقابيين أولا، قبل أن يكون جحود الدولة التي خدمها بكل حماس وإيمان. لا أود أن أكون مكان أحد أعضاء المكتب التنفيذي الذين عراهم اليوم موت ابن صالح، والذين ينهمكون في إعداد العدة لمؤتمرهم القادم الذي سيقصم ظهر ما بقي من ديمقراطية وحياة داخل المنظمة العتيدة. هناك شيء يتعفن منذ عقود داخل الإتحاد. هناك كتم للرائحة، ولكن التعفن حقيقة. يمكنكم العودة إلى التعتيم على أحمد بن صالح اليوم… لقد كان أنقى وأصلب وأعلى من مكاتبكم أجمعين…
رحمك الله سيد أحمد وجزاك عن تونس كل خير!