هناك وجه آخر لما يحدث في فلسطين، واقع جديد تعيش على وقعه كل عائلة على رقعة أوطاننا الصغيرة، منذ السبت العظيم وإلى اليوم، عشرة أيام بعد القصف الهمجي الصهيوني على الفلسطينيين. لقد أحيا الغزاويون فينا جميعا تلك الرغبة في أن نحكي لأبنائنا القصة، وقد أصبحوا بفعل الأحداث أكثر قدرة على الإصغاء والفهم. هذا جزء من انتصارات فلسطين، وجزء من عبقرية الإنسان. عندما يبدو أن كل شيء قد انتهى، وأن المستضعفين قد ركنوا إلى القنوط، وأن الإحباط قد أخذ منهم كل مأخذ، تفتح فلسطين عينيها، وتبدأ في تذكيرنا مجددا بما لا يمكن أن ينسى، وفي تعليمنا ما لا يمكن أن نجهل.
لا ينبغي الخجل من الاعتراف بأن شعوبنا تعيش عصرا من الإسفاف الذي حول حياتها إلى نوع من الصفقات اليومية الصغيرة. بطريقة أو بأخرى، انفصل الجيل الجديد عن جيلنا، وبدا ألا شيء سيجمعنا مجددا. كنا نتساءل باستمرار عن أسباب هذه القطيعة، وكأننا لم نعد نملك من الأمر شيئا. وفي حين نتجرع يأسنا اليومي، يغيب عنا أبناؤنا تماما، ينغمسون فيما يعتقدون أنه الأهم، تدبير مستقبلهم بالطريقة التي تتاح لهم. كلما ضاقت سبل المتاح، كلما زدنا خوفا عليهم وعلى أنفسنا. حياة من الخوف المستمر. أصبحت "القضايا الكبرى" قضايا جيل يسير نحو الاندثار، ومعها كل ما تعلمته البشرية من قيم. أغلقت الأسفار على هذه القيم، وغاصت في نسيان بلا قرار.
هل من السهل اليوم أن تقنع إبنك أو إبنتك بقيمة مجردة؟ هل من اليسير أن تراهما يتبعان ما أردت لهما أن يتبعاه في قرارة نفسك؟ وهل متاح لك في ظل الأزمات المتراكمة أن تأمل في أكثر من تلبية الحد الأدنى من الخبز والماء وبعض الكرامة؟ من مازال بإمكانه أن يبدأ نقاشا مع أبناء الجيل الجديد حول قضية كبرى أو مبدأ أخلاقي عام، دون أن يقامر بمعاملة تجعله في وضع شبيه بكائنات منقرضة، هذا إذا ما استمع له.
ثم تأتي غزة، فتعفيك من كل شيء. يأتي السبت العظيم فترى اضطرام البراكين في أبنائك، ويأتي الانتقام للهزيمة، فتراهم ينتظرون أن ترد المقاومة، ثم تأتي الدماء، فيبدو لهم أنها دماؤهم، ثم يبادرونك هم بالكلام، فتبدأ الاكتشاف. لولا فلسطين، هل كنا نستطيع أن نربي أبناءنا على ما بقي من قيم جميلة؟ الحق، العدل، الإسناد، التضامن، الإنسان، الأرض، الكرامة. فلسطين تعالجنا جميعا، تمسح بحركة مقاوم واحدة وهم عيشنا الرتيب والفارغ، وتعطينا سببا للحياة. هذه فلسطين تربي أبناءنا، وتعيد تربيتنا من جديد.
عندما تأتي فلسطين، يصبح لكل كلمة تقرأها أو تكتبها معناها، ولكل كتاب تتصفحه روح، ولكل إنسان يعترض طريقك هوية. تنفخ فلسطين بمقاومتها الروح فينا مجددا وتخلصنا من عفن الجثث التي نلبسها ونتجول فيها. نعم، للإنسان قيمة، ولكرامته قيمة، ولحياته قيمة. هذه القيمة لا تصنعها إلا مقاومة الظلم والانتصار للعدل. هذا ما تفعله فلسطين، وهذا ما كانت تحسن فعله باستمرار.
عندما يرى أبناؤنا كيف استطاع شعب فقير محاصر أن يهزم عدوه العنيف والمدجج بالإمكانات، يفهم دون محاضرات طويلة معنى الإرادة. وعندما يرون أولئك المقاومين يذهبون بكل شجاعة الدنيا إلى الشهادة فرحين مبتسمين، يدركون أن هناك شيئا أهم من الحياة، وعندما يشاهدون كل ذلك الصبر على القصف والقتل والدمار، يعرفون أن للحرية والكرامة أثمانا غالية، وأن دفعها شرف لا يتاح للجبناء.
في الوقت نفسه، تنمو تلك المشاعر التي سنحتاجها في يوم قريب: غضب مكتوم، وحقد يكبر ويتعاظم، ليكون سندا لما بقي من الطريق. شيئا فشيئا يعيد أبناؤنا اكتشاف العالم وجغرافيته المستقرة: أولئك الذين كانوا أعداءك في البداية لا يزالون في نفس مواقع العداء. يكتشف أبناءنا جذورهم التي غطتها الرمال، ويبدأون في تحسسها ورعايتها والعناية بها. تزرع غزة في دماء الجيل الجديد بذورا تستعصي على الفناء، وتنتظر مثلنا أن تزهر وتثمر.
شيئا فشيئا يكتشف أبناؤنا زيف العالم الحر الذي لم يكن يوما حرا، وسطوة الصهيونية عليه. يكتشفون كم كذب عليهم هذا العالم، وكم سعى لصرفهم عن كل ما هو أساسي. يراقبون ويلاحظون بصمت: "لا عدل إلا إن تعادلت القوى، وتصادم الإرهاب بالإرهاب". يفتحون أعينهم الكبيرة على حقيقة ميزان القوة، وعلى أن الضعيف إذا كان بلا إرادة، ميت لا محالة.
لا تنفك غزة تعلم أبناءنا البطولة والرجولة والشجاعة. وهم يرون شبانا في مثل أعمارهم يلقمون المدافع تحت قصف الطائرات، وهم يرونهم يتقدمون للموت مبتسمين واثقين، وهم يرون كل العالم يصب عليهم لؤمه وحاملات طائراته وطائراته، فإن شيئا كبيرا ينفجر في وجدانهم، شيء غير قابل للتزييف. في عالم تشجع فيه الغرب المثلية، وتكاد تشترط الإنخراط فيها للتمتع بأبسط الحقوق، يعيد أبناؤنا اكتشاف قيمة الرجولة، ويضعون غزة ومقاومي غزة مثلا أعلى حقيقيا لهم. غزة تصنع أجيالا جديدة، وتسقط برصاص وإرادة أهلها ومقاوميها، مؤامرات استغرق نصب شراكها قرونا. تعيد فلسطين ولادة الإنسانية، وتجدد قيمها الحقيقية، وتأخذ أبناءنا إلى مساحات كدنا ننسى وجودها. غزة تربي أبناءنا، وتربينا.